الواقع اللبناني، بتركيبته المتنوعة- المختلفة يمثل المظهر السياسي لتناقضات مصالح المنطقة وإيقاعات حراكها. فالبنية المتعددة الثقافات والأديان، وبالتالي الولاءات تنتج واقعاً داخلياً يفرزة حراك إقليمي مشرَّع على أولويات دولية.
الغريب أن هذا الواقع السريع الاستجابة والتأثر بموازين القوى الإقليمية وتناقضاتها لم يزل، ومنذ عقود يتأرجح على الحافة، بين تمنيات مخلصة ترى لبنان وطنها الأبدي، وأخرى تراه مجرد فكرة غير مكتملة كيانياً.
بين الفكرتين غير الواضحتين تطل مقولة أن "الطوائف نعمة البلد وثروته الحضارية" ومن خلالها- الطوائف- يستمر القبض على أعناق المجتمعات كافة التي تمثل النسيج الشعبي لوطن ملتبس الهوية والانتماء.
بين فرقاء الوطن مفارقات عجيبة في توصيف مكونات البلد، وتبريرات أشد عجبا للترسيخ الممنهج للطائفية والمذهبية، حيث تذهب رموز تلك المكونات عبر سعيها لاستمرار تزعمها لطوائفها إلى تثبيت شرعنة حضورها من خلال إبراز ثقل وأهمية دورها المختصر بشخوصها الكريمة، التي تمرست في بث خطابين متلازمين- متداخلين.
الخطابان يتوجه أحدهما إلى الطوائف الأخرى، لكي يبرِّد خاطرها، ويبشرها بالتعايش والشراكة في الوطن والمواطنة. فيما الثاني يحاكي الغرائز الدينية والعصبية لفئات كل طائفة ومكوناتها، مخوِّفاً إياها من الذوبان والتفكك في محيط معادي – يعبَّر عنه بتورية وكلام مخفف المعنى – ذلك المحيط الذي يخفي هو ايضا سباقه إلى التكتل الطائفي- المذهبي وبالوسائل ذاتها.
من هنا نرى الهرولة الدائمة والتشدد اللامحدود في الاستئثار بالسلطة والنفوذ اللذين يمنحان الحصانة والضمانة من طغيان الآخرين ذوي المنافسة على المكان وما يتضمنه من نفوذ ومصالح.
للأسف، واقع المنطقة، حتى في أقصى حالات خفوت حدة تناقضاته، لم ينتج يوماً واقعاً مساعداً للبنان يدفع باتجاه تماسك وطني على مستوى الهوية والمواطنة نظراً لاستمرار الحاجة الإقليمية والدولية أيضا إلى تنفيذ السيناريو المسرحي المعد سلفا أو الذي قيد الإعداد مستقبلاً.
وسط هذا المشهد الشديد الخصوصية تقيم الخصوصية الثانية- أي اللاجئون الفلسطينيون في لبنان. الطبيعي وجودها في قلب المعادلة اللبنانية يلازمه تأثر وتأثير متبادلين، خاصة وأنها تخضع لتجارب بعيدة وعميقة، تتشعب بين الداخلي- على الأرض الواحدة، والإقليمي ثم الدولي، حيث الفلسطينيون بدورهم يخضعون وبنسب متفاوتة لحالة استقطاب وجذب للمعسكرات المتنافسة- المتصارعة في المنطقة وعليها.
المعروف أن حساسية العلاقات اللبنانية الداخلية ينتج عنها حساسية من نوع آخر، هي حساسية الشعور بالتلاعب بموازين قوى الطوائف والمذاهب، حيث يمثل الوجود الفلسطيني، بحيويته السياسية والميدانية، عامل قوة وعامل ضعف ايضا، فيما لو انحاز إلى هذا الطرف أو ذاك في المعادلة اللبنانية. وما الاستحضار الدائم لمقولة التوطين للاستثمار السياسي بين الفرقاء اللبنانيين، سوى دليل على استشعار خطر إمكانية إسهام الفلسطينيين بالتغيير الديموغرافي وبالتالي السياسي في لبنان، علماً أن الفلسطيني كان دائماً غير معني بما يروجه الآخرون عن التوطين، لأن لديه من الهم والقضايا الشائكة ما يشغله دائماً عن ذلك، لكنه كان مضطراً وكل يوم على تأكيد أن لا وطن للفلسطيني سوى أرضه ودياره فلسطين، وبالتالي غسل ذمته من إثمٍ يرتكبه هو، لكنهم يرغبون بإسقاطه عليه في الظروف والمحطات المناسبة. ورغم حشر اسم الفلسطينيين في يوميات التناقض اللبناني، أو وضعهم في مواقف هم بعيدون عنها كل البعد، إلا أنهم استطاعوا بفضل وعيهم واقعَ لبنان وحساسيةَ تركيبته، ومن خلال خطاب مكثف الوضوح في تبريد خاطر الخائفين والمشككين، وشد أزر أولئك المؤمنين بقضية فلسطين وشعبها والمدافعين عن حقوق اللاجئين في بلاد الأرز نفسها، وعن ضرورة معاملة الفلسطيني بطريقة إنسانية وحضارية ترقى إلى احترامه وتفهُّم معنى كونه ضحية أعتى احتلال عرفه العصر الحديث.
في المعادلة اللبنانية الراهنة، شكلت حركة فتح، بخطابها المعتدل، وعلاقاتها المتزنة والايجابية بالطيف الاجتماعي- السياسي اللبناني حالة التفلت والوصل معا وبالمعنى الدقيق للكلمة. لم تسقط في مستنقع الصراعات الداخلية، ولا استجابت للوم هذا الطرف أو ذاك ممن انتقد حياديتها من صراعات عميقة وملتبسة، واستمرت حصينة ومعها بقي اللاجئون بعيدين عن مغريات الانزلاق إلى هاوية التجاذبات الداخلية.
لحركة فتح، كان وسيبقى، خطاب محدد، يرى في السلم الأهلي والوحدة الوطنية اللبنانية مصلحةً عليا لشعب فلسطين وقضيته. هذا الموقف لا يستطيع التزامه وتكريسه سوى فتح أو حركة تشبهها، لأن بنيان حركة فتح الثقافي السياسي يتناسب ومعايير العلاقة الدافئة والسليمة مع محيطها- محيط فلسطين وشعبها.
محمد سرور
26/7/2011
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها