لم يكن صباح الثالث عشر من حزيران الحالي، عاديا بالنسبة لام بلال؛ التي ارتدت فيه ثوبها الفلسطيني المطرز بالألوان الزاهية ابتاعته خصيصا لتستقبل فيه ابنها، كما حضرت بمساعدة بناتها الحلويات بأنواعها، وعلب الشكولاتة والعصائر، وبدأ بعدها الجيران والمحبون بالتوافد على منزلها، الذي ملأته النسوة بالدبكات والزغاريد.

قبل ذلك هاتفت رهيبة كايد أبناءها، سهى المقيمة في برلين، ومحمد الذي يعمل منذ سنوات في العاصمة السعودية الرياض، ودعتهما لمشاركتها فرحتها الموعودة، فبلال حصل أخيرا بعد 15 عاما من الاعتقال، على ورقة "شحرور" من عزل "هلكدار"، وهي الورقة التي يسلمها الاحتلال للأسرى المنوي الإفراج عنهم.

استجاب الأبناء لطلب أمهم، في الوقت الذي آثر فيه شقيقهم الثالث محمود تأجيل فصله الدراسي، حيث يكمل الدكتوراه في الجامعة الأردنية، وهكذا لملمت العائلة شتاتها، وهيأت نفسها، وبقيت الخطوة الأخيرة وهي خروج بلال.

وعلى مداخل بلدة عصيرة الشمالية شمال مدينة نابلس مولد بلال ونشأته، علقت لافتات كبيرة ترحيبية، خط عليها الأهالي عبارات "القدس تحتضن الرجال الراحلين بحلمهم والجرح في الأعماق غائر، القدس ما زالت تحلق في القلوب وإن بدت في الأفاق أحزانا تكابر"، أرفقت الكلمات بصور بلال التقطت له داخل السجن.

الجدار المحيط بمنزل العائلة، حول هو الآخر إلى لوحة فنية، رسم عليه الأصدقاء باللونين الأحمر والأخضر خارطة فلسطين، امتدت على طول الجدار وعرضه، كتبوا جوارها "أهلا وسهلا بالأسير المناضل بلال كايد"،

الوضع داخل المنزل كما خارجه، حيث لم يترك حائط واحد دون أن تعلق عليه صورة لبلال، تقول الوالدة إن الجميع كان "سعيدا ومستعدا لاستقباله"، لكنها في لحظة شعرت أن فرحتها لن تكتمل، حتى راحت تطلب من رفاقه أن لا يعدوا ولائم الإفطار، والتريث قليلا إلى أن يصل ابنها، استغربوا ذلك، فردت "إحساس الأم".

أثناء ذلك، كان أشقاء وأقارب وأصدقاء بلال قد وصلوا إلى حاجز الظاهرية جنوب مدينة الخليل، لاستقباله، انتظروه لساعات، قبل أن تهاتف مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان شقيقه محمود، تبلغه أن إدارة سجون الاحتلال عدلت عن الإفراج عنه، وحولته للاعتقال الإداري، عندما أبلغت الأم بالخبر قالت لهم: "قلبي كان دليلي"، وحمدت الله أنها كانت قوية بما يكفي لأجل ابنها.

أسندت ظهرها إلى الكنبة في غرفة الضيوف، وركنت عكازها إلى جانبها، مشيرة بسبابتها إلى خمس صور تعتلي أحد الجدران، أربعة منها لأبنائها، والخامسة لوالدهم الذي منع طيلة عام 2014 من زيارة ابنه بحجة الرفض الأمني.

تقول رهيبة إنها تجادلت يومها مع الجندي الذي أعاده عن معبر الطيبة، وقالت له "من الباب للطاقة مرفوض أمني؟"، رد الجندي "نعم من الباب للطاقة الحج لازم يرجع"، مرض الأب وفارق الحياة بعد فترة وجيزة دون أن يرى ولده.

حديث الأم عن زوجها، جعل سهى تنسحب إلى غرفة قريبة، لم تستطع جدرانها حجب صوت شهقات بكائها، ما زاد من حزن رهيبة التي أمالت رأسها للأمام وتمتمت: "أودعك يما عند اللي ما يخون الودائع".

اعتقل الاحتلال بلال في كانون الأول/ ديسمبر عام 2001، حيث حاصرت قوة كبيرة منزله في بلدة عصيرة الشمالية، ضربوه وشتموه وعروه من ملابسه، وأبقوه في البرد القارص لساعات، قالت الوالدة إنها اختبأت وراء النافذة وراحت تراقبه وتدعو له: "الله يسهل عليك، الله يكون معك". قالت رهيبة لإخوته يومها "اعتقلوا أسد الغابة".

خاض بلال خلال فترة اعتقاله الإضراب المفتوح عن الطعام خمس مرات، وعزل لأكثر من أربع مرات، كما أمضى آخر ستة أشهر قبل الإفراج عنه في العزل، بعدما اتهمته إدارة مصلحة السجون بإلقاء خطاب "تحريضي"،

ساد السكون لبرهة، تمرر رهيبة ابهامها برفق فوق أزرار سبحتها الزرقاء، الملتفة حول أصابعها، وراحت تعدد ما أحضرته لابنها من بدلة رسمية، وملابس، وأحذية جديدة وكل ما يلزم بيته الذي بنته له من أثاث وأدوات كهربائية، هذا البيت الذي "لا ينقصه سوى بلال وعروسه".

تبتسم رهيبة: "منذ أشهر وأنا أبحث له عن عروس، سألت الجارات والقريبات، لكنهم كسروا فرحتي (إشارة إلى قرار الاحتلال بالتمديد)".

تتعهد أنها ستستقبله بأبهى صورة وستغني له عند الإفراج عنه: "لا نخاف من الحبوس ولا ذلينا، إحنا موسنا بروسنا وإحنا تعلينا، يا شبيب بلال يما قوم إركب لاقينا، أضرب بسيفك لا تشمت حدا فينا".

يخوض الأسير بلال كايد حاليا إضرابا مفتوحا عن الطعام ضد تحويله للاعتقال الإداري، بعد قضاء محكوميته البالغة 15 عاما.

وما إن انتشر خبر تجديد الاعتقال الإداري لبلال في بلدته وبين أصدقائه، حتى باشروا بتصميم بوسترات وصور احتجاجية كتبوا عليها "يسقط الاعتقال الإداري"، وألصقوها فوق صور التهنئة.