تحدثنا في الحلقات السابقة عن الخوف والإحباط لدى "داعش" وتخلي الداعمين، وأبرزنا مكاسب التنظيم والدول الأخرى من "غزوة باريس"، واستكملنا حول النشأة و"القاعدة" والتطرف، ثم عرجنا على دور التهميش في العنف، وعن "القاعدة" المدعومة عالميا و"داعش"، وأمريكا ورعاية الإرهاب والطائفية، ونتحدث في هذه الحلقة عن الواقع الافتراضي ودوره في كسب الأعضاء الجدد ، والاغتراب و"الجهاد" والإعلام، ونتعرض ل"تحاث" المشاهد ومعارك داعش الاعلامية وأصل تشكيل الفكرة.
الواقع الافتراضي والتعبيرات
يخوض المحلّلون اليوم كثيرا لبيان أسباب العنف والإرهاب المرتبط بالأفكار المتطرفة ، رغم ان التطرف (في أي دين أو ملة) قد يجد له متنفسا آخر عبر الواقع الافتراضي أو العزلة الذاتية أو الهجرة او الابتعاد عن المجتمع إلا انه كثيرا ما يجد تعبيراته المادية العنيفة استنادا لمجموعة من الأسباب منها الشعور بتهديد الذات (والفكرة وفهم الفكرة لا ينفصل عند هؤلاء عن الجماعة وعن الشخوص)، كما ويظهر العنف أيضا حال (التحكم) أو سيطرة جماعة تحمل الفكر الاسبدادي أو المتطرف او الاستنثاري على السلطة،(انظر زيادة معدلات العنف من المتطرفين الهندوس في الهند مع تقلد رئيس الوزراء (مودي) المتطرف رئاسة الوزراء هناك وهو المنتمي لحزب هندي متطرف ، وانظر لاستغلال فكرة "الجهاد" و"التمكين" (والذين ان مكناهم بالأرض...) من قبل الاسلامويين كيف ارتبطت بالاستبداد والعنف...، وأنظر له في ما سمي "العشرية السوداء" في الجزائر، وفي عمليات قتل المسلمين لسبب الانتماء لديانتهم وقوميتهم المختلفة في دولة ميانمار في جنوب شرق آسيا).
إن فقدان هذه الجماعات (أو الافراد) لهويتها، وتوهانها بين المختزن والمُعاش على سبيل المثال في التنظيمات الاسلاموية المتطرفة بين الواقع "العلماني الكافر" كما يعتقدونه سواء في الدول العربية أو في الغرب وبين المقدس الذي يجعلهم في حالة صراع دائم مكتوم أو معلن، هذا الصراع قد يستطيعون الخروج منها بالتأقلم أو بالعزلة ولكن في الحالة العنيفة من التعامل يلجأون للإرهاب والعنف تعبيرا عن رفض ذوبان أو فقدان الهوية.
الاغتراب و"الجهاد" والإعلام
إن العيش في حالة اغتراب عن المجتمع المحمّل بالتراكمات والصراع قد يكون سببا من أسباب التطرف ومن أسباب العنف مضافا اليه الإحساس بالتهميش الاجتماعي الذي يشعر فيه الكثيرون من هؤلاء (كتهميش غالب السُنًة في العراق ،ومجمل الشعب في سوريا اليوم) وكالشعور بالتهميش الاجتماعي في بعض دول الغرب. (في باريس يقيم 12 مليون منهم 2 مليون مسلم) مضافا لذالك عوامل الفقر والضيق الاقتصادي المترابط مع الجهل والإحساس بالظلم الذي قد يتحول لحرب يخوضها المتطرف أو الجماعة المتطرفة.
يخوض المتطرف أو جماعته حربا و "جهادا" هي ليست حربا على ذاته الأمارة بالسوء ما هو "جهاد داخلي" (أنظر المفكر الاسلامي فتح الله كولن والمفكر محمد عمارة) وليست حربا على سوء فهمه أو سوء تلقيه وعقله النقلي غير النقدي، أو عدم قدرته على التأقلم أو التأثر أو التغير والتغيير، وهي ليست حربا على الاقل او صراعا للحفاظ على ذاته، وإنما يؤدي مثل هذه الاحساس بالظلم والتهميش والاغتراب وضياع الهوية للنقمة على الآخر ومثل هذه الحالة تحتاج تحتاج لصاعق تفجير، فالشحنة جاهزة وتريد فقط من يشعلها! وماذا يمكن أن يكون هناك أفضل من وسائل الاعلام وعلى رأسها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، أو دور العبادة أو الجامعة والمدرسة، أو القدوة من "الدعاة" الموثوقين (في أي دين او طائفة) ليقوموا بعملية الاشغال هذه فتصبح النفوس بانتظار تحولها الى جثث كما حصل في "غزوة باريس المباركة" في 13 /11/2015 على خطى غزوة نيويورك 11-9-2001.
"تحاث" المشاهد ومعارك داعش الاعلامية
إن مشاهد التعذيب في معتقل "غوانتنامو" وفي معتقل أبو غريب العراقي والرسوم المسيئة للرسول وشتم النبي وغيرها من الممارسات التي يطبل ويزمر لها في الإعلام تحفر أخاديدا في العقل (السلفي– القتالي ) الكامن لدى الكثير من الاسلامويين.
إن حركة مثل (داعش) لم تهمل الاعلام أبدا ولا معاركها الشرسة على وسائل التواصل الاجتماعي حيث خاضت حربها بكفاءة عبر نشرة (دابق) وعبر آلاف الحسابات في "تويتر وفيسبوك" وفي "يوتيوب" ومشاهد القتل والعنف التي توحي بالقوة والعظمة، وفي عديد المواقع، واستعانت بدُعاة في كل مكان ينظّرون "للخلافة" كما استمدت فكرها المنحرف من قناعات مشلولة ومن أفكار ميته (كما يسميها المفكرمالك بن بني) واعتبرت مشاهد القتل التي تقوم بها والحرق دلالة على القوة والإرهاب على العدو من جهة، ودلالة على الامكانية في رسالة للأنصار أو الاعضاء المحتملين الذين تكمن في عقولهم فكرة الصراع الأبدي بين الكفار والمسلمين بلا هوادة.
أنظركيف تستثمر "داعش" (غزة باريس) لتبرر القتل وتقوم بذات الوقت بخلق الرموز والتحريض للأمة عبر ما يقول عبد الحميد أباعود (أبوعمر البلجيكي) المنسوب له التخطيط لهجمات باريس في مجلة (دابق) التابعة للتنظيم في مقابلة له منشورة في المجلة 21/11/2015 (ألا ترون ملل الكفر اجتمعت على المسلمين كما تجتمع الوحوش على فريستها) في استعارة واضحة للحديث الشريف (كما يتداعي الأكلة على القصعة) أو بنقل صريح عن وصيته حيث يقول:
((أيها المسلمون؛
يا من تدَّعون أنكم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛
ألا ترون ملل الكفر قد اجتمعت على المسلمين كما تجتمع الوحوش على فريستها؟
ألا ترون القرآن يوطأ، والرسول صلى الله عليه وسلم يُلعن، وأمنا عائشة رضي الله عنها يُنتقص منها؟!
مُزِّق أطفالنا أشلاءً بالقصف في كل مكان، وانتهكت أعراض أخواتنا، ونُهبت أراضينا وثرواتنا، ومع ذلك لا تفعلون شيئاً؟!
كيف تعيشون مع هؤلاء المجرمين، أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بينما يخوضون الحرب ضد الإسلام والمسلمين؟!)) وكان الشخص ذاته في نفس المقابلة-التي نشرت بعد مذبحة باريس ولكنها كانت قد أجريت قبل عودته لأوربا- قد قال أنه ذاهب لأوربا (لإرهاب الكفار الشانين الحرب ضد الدولة الاسلامية) فبلجيكا (كما تعلم عضوة في التحالف الصليبي الذي يهاجم مسلمي العراق والشام).
في أسباب العنف الناجمة عن فقدان الهوية والشعور بالاغتراب والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والفقر والدونية والاعلام المسيء الكثير مما يستنفز المرء ، ومما يتم استغلاله باتفاق من قبل الفصائل الاسلاموية وعلى رأسها اليوم "داعش" واخواتها وبناتها، لتعود ثانية لاستقبال جموع المنضمّين الذين تم تدريبهم عسكريا وأمنيا على الشراسة والتشكك بالآخرين مقرونا بالطاعة العمياء للقائد.
"داعش" وأصل تشكيل الفكرة
من الحكمة أن نشير الى مجموعة من الكتب التي كان لها دور بارز في إعادة تشكيل العقل السلفي–القتالي–الانقطاعي في أولها كان كتاب سيد قطب الشهير(معالم في الطريق) الذي صنف المجتمعات الى جاهلية واسلامية، ثم كان كتاب عبد السلام فرج (الفريضة الغائبة) ليقرر وجوب ما يسميه السلفيين (جهاد الطلب) بمعنى مقاتلة (الكفار) في عقر دارهم فإما دار كفر أو دار سلم، ويوثق المفاهيم القديمة ل(دار الكفر ودار الاسلام) ، كما بيّن الفرق بين (العدو القريب) في بلادنا و(العدو البعيد) في بلاد الغرب (الصليبي الكافر) ليأتي الكتاب الأيقونة (الجامع في طلب العلم الشريف) للشيخ فضل (هو سيد إمام عبدالعزيز الشريف منظّر وقائد تنظيم "الجهاد الاسلامي" في افغانستان من أواخر الثمانينات حتى أوائل التسعينات من القرن العشرين) ليتم تكفير "من لم يحكم بما انزل الله" وفي غلو من الفتاوي التي أباحت دماء المسلمين قبل غيرهم، أما كتاب (ادارة التوحش) ذو الطابع الأمني لأبي بكر ناجي فهو الكتاب المتوافق مع الرغبة الأمريكية وسعيها بإحداث الفوضى بالمنطقة والذي يرى أن وجود هذه التيارات يصبح ممكنا على الأرض حيث يأتي مع إزالة الحكم حدوث الفوضى في البلدان ضمن مراحل متتابعة، وبناء عليه ما كتبه أبو مصعب الزرقاوي وغيره ما أصبح امتدادا للنظر النقلي المتطرف غير النقدي للمراحل في فكر ابن تيمة ومحمد بن عبد الوهاب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها