بعيدا عن ضجيج جرافات الاحتلال الاسرائيلي وهي تهدم المنازل الفلسطينية في مدينة القدس وضواحيها في سياق استراتيجية اسرائيلية متواصلة لتغيير الواقع الحضاري والديموغرافي لمدينة القدس وشطب الوجود الفلسطيني كاملا بكافة مكوناته السياسية والدينية، اسلامية ومسيحية، وثقافية وانسانية، تحتدم معركة الصورة في اروقة مؤسسات الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي في كبرى المدن الاوروبية? جنيف وبروكسل، اللتان تحتضنان معرضي صور الأول فلسطيني والآخر اسرائيلي.

هي الصورة، الدليل الحي الذي يوثق الوجود على الأرض، وهي الذاكرة التي تتوارثها الأجيال، وفي الشرق المعقد الذي تحدث عنه الجنرال ديغول ذات مرة، يسعى كل طرف لتثبيت روايته التاريخية وقناعاته وصوره لشعبه أولا وللعالم ثانيا بأنه صاحب الحق وبالتالي صاحب الأرض، وهي بذلك جزء أساسي من المعركة الحضارية الثقافية.

هي اذا معركة الصورة التي ستتصدر في الأيام القلية المقبلة المشهدين السياسي والاعلامي كأداة ثقافية وإعلامية فعالة في مراحل عديدة من الصراع العربي الاسرائيلي.

معرضان للقدس، الأول اسرائيلي في مبنى الاتحاد الاوروبي ببروكسل يقام يوم 4 حزيران، والثاني عربي/ فلسطيني في مبنى قصر الأمم المتحدة في نفس الشهر وفي فترات زمنية متقاربة في اثنين من أكبر المحافل الدولية في اوروبا، الأول معرض صور واحتفال تقيمه اسرائيل في مبنى الاتحاد الاوروبي في بروكسل تحت عنوان "يوم القدس" وبحضور سياسي اسرائيلي عال من اعضاء كنيست وشخصيات ومؤسسات يهودية اوروبية، حيث اختيرت صورة المدينة القديمة للقدس لملصق التظاهرة.

والثاني فلسطيني عربي في قصر الأمم المتحدة، تقيمه بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة في جنيف بالتعاون مع منظمة العمل العربية، لمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع العمال الفلسطينين، لصور القدس للفنان أحمد داري بعنوان "القدس مدينتي"، الذي وبعد ان غنى بصوته لمدينته القدس، ها هو يرصد بعدسته تفاصيل الحياة اليومية في مدينة القدس وهي تحت حراب الاحتلال تقاوم بوحدتها الوطنية وبكافة أشكال الصمود والثبات على الأرض.

تلعب الصورة اليوم دورا كبيرا في توجيه الرأي العام، وتعد داعماً اساسيا لتثبيت الفكرة ضمن المنظومة الاعلامية الحديثة. ولعل المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينة تظهر مدى الأهمية التي أولتها آلة الإعلام الإسرائيلية للصورة كمادة تسويقية للمشروع الصهيوني في فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، وكانت لردح من الزمن تحتل الشهد الاعلامي والثقافي في العالم الغربي.

ولكن مع بروز الشخصية الوطنية الفلسطينية التي تشكلت في اطار الثورة الفلسطينية المعاصرة والتي أولت منذ بداياتها أهمية للصورة الثابتة والمتحركة في نضالها، والذي اعاد اسم فلسطين للخارطة السياسية ولاحقا الجغرافية، ومع ازدياد تأثير أنصار الحق الفلسطيني في اوروبا والعالم وبروز جيل جديد من الاعلاميين المهنيين في اوروبا تحرر من سطوة الماضي السياسي الأوروبي خلال الحربين العالميتين ومسؤوليتها في الجرائم البشعة، شكلت الصورة قلقا لدى إسرائيل حيث كانت سببا في كشف جرائمها وممارساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بداية من الصور التي وثقت المجازر التي ارتكبت في دير ياسين وكفر قاسم وغيرهما من القرى المدمرة وصولا الى صور مذبحة قانا في جنوب لبنان وصور الجنود الاسرائيليين الذين كانوا يكسرون ذراع أحد الفلسطينيين في بدايات الانتفاضة الاولى، إلى صورة الشهيد الطفل محمد الدرة التي جابت صحف وتلفزات دول العالم، والتي تحاول الآلة السياسية الاسرائيلية تبرئة الجيش الاسرائيلي، تحت شعار "طهارة السلاح الاسرائيلي" في قضية ترفعها منذ سنوات في المحاكم الفرنسية ضد مدير مكتب القناة الفرنسية في القدس شارل انديرلان ومصورها في غزة طلال أبو رحمة الذي صور هذا المشهد المروع الذي هز الضمائر الانسانية في العالم قاطبة.

لقد قلبت هذه الصور تدريجيا الرأي العام الدولي ضد اسرائيل، وساهمت في تشكيل حركة تضامن دولية زاد تأثيرها يوما بعد يوم، من أجل ذلك حاولت الأجهزة الأمنية والعسكرية الاسرائيلية مصادرة وحجب الصورة الفلسطينية، حالها بذلك حال الكلمة الأمينة المعبرة عن الطلقة الشجاعة ..، كما كان يردد الرواد الأوائل لصوت العاصفة، صوت الثورة الفلسطينية في نهاية بثهم الاذاعي، فلم تكتف أجهزة الاحتلال الاسرائيلي باغتيال غسان كنفاني ببيروت ومحمود الهمشري وعزالدين القلق وفضل الضاني في باريس ووائل زعيتر وماجد أبو شرار في روما وغيرهم من فرسان الكلمة، لكنها صادرت وثائق مؤسسة الأبحاث الفلسطينية وأرشيفها وأفلام مؤسسة السينما الفلسطينية لدى الاجتياح الاسرائيلي للبنان، ودمرت أكثر من مرة مقرات هيئة الاذاعة والتلفزيون الفلسطيني في الضقة الغربية وغزة، بعد ان صادرت الأرشيف المصور ابان الانتفاضة الثانية، هذا دون ذكر عمليات الاغتيال المتعمد لصحفيين ومصورين فلسطينيين ودوليين خلال فترات متعددة في الانتفاضة والعدوان الأخير على غزة.

ان المعركة اليوم على أرض فلسطين، كما هي بالأمس وبالغد ايضا، هي بامتياز معركة صورة وهي كذلك في أكثر مناطق العالم سخونة، وهي معركة تزداد تقنية وضراوة وتسلتزم من صاحب الحق الفلسطيني والعربي حشد كافة الامكانيات البشرية المهنية المتقدمة والمادية للدفاع عن حقه، وذلك في عالم سريع يخضع لشروط عولمة قاسية تسعى لفرض صورة واحدة مؤطرة مبرمجة ضمن رؤية استعمارية من نمط جديد، قوامها الاقتصاد والتكنولوجيا.

ان المؤسسة الفلسطينية الرسمية والشعبية مطالبة بوضع استرايجيات تسعى لتوثيق الرواية والواقع الفلسطيني بالصوت والصورة، وهذا هو التحدي الأكبر اليوم، فكل التحية للفنان المبدع أحمد داري وللمخرج الرائد هاني أبو اسعد الذي انضم لزملائه ميشيل خليفي، ايليا سليمان ورشيد مشهراوي، في اختراق مهرجان كان السينمائي الشهير، فحصد جائزة لجنة التحكيم? التحية لجيل كامل من رواد الصورة الفلسطينية من الأخوين لاما الى هاني جوهرية ومصطفى أبو علي وغالب شعت، والى من يكمل مسيرتهم اليوم من الجيل الجديد من مصورين ومخرجين واعلاميين ليبقى صوت الحق الفلسطيني عاليا وصورته ناصعة.