نشرالباحث د. محمود محارب، المحاضر في جامعة القدس العربيّة دراسة مطولّة حول العلاقات بينالدولة العبريّة وجنوب السودان قال فيها إنّه عند قيام إسرائيل، كان دافيد بنغوريون الذي رسَم نظرية الأمن الإسرائيلي وبلورَها يخشى بشدّة ظهور كمال أتاتورك عربييوحّد العرب في مواجهة إسرائيل.

وفيأعقاب ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وتحوّل مطلب الوحدة العربية من فكرة نخبويّةإلى مشروع شامل يحظى بتأييد عارم من الشّعوب العربية، بدا لبن غوريون أنّ ما يخشاه قدظهر فعلاً، فوجّه جلّ جهدهلإفشالهذا المشروع وإسقاطه.

واعتقدبن غوريون أنّ الخطر على إسرائيل يكمن في قلب الوطن العربي، أي في دول الطوق وخاصّةً مصر لضربهذا المشروع العربي وحاضنتهمصر،ورئيسها عبد الناصر قائد المشروع ورمزه، وسعى بن غوريون للبحث عن شقوق في الجسد العربيوعن مصالحَ آنيّة وضيّقة مع نخب عربيّة، وعن مصالح مشتركة مع أقليّاتٍ عرقيّة أوطائفيّة في الوطن العربي.

كماسعى لإقامة تحالف مع دول الحزام أو دول الأطراف أو المحيط الواقعة في أطراف الوطن العربي،ضدّ دول القلب المحاذية لفلسطين.وضمّتدول الحزام في الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي كلاً من تركيا وإيران وإثيوبياوأيضاً السودان واليمن.

جرتبين حزب الأمّة وإسرائيل في الفترة الممتدّة بين سنة 1954 وسنة 1958 اتّصالات واجتماعاتكثيرة ومفاوضات متشعّبة في شأن مسألتين أساسيّتين لمواجهة ما اعتبراه عدوّهماالمشترك المتمثّل في مصر. تتعلّق المسألة الأولى بتقديم إسرائيل مساعدات ماليّة لحزبالأمّة على شكل قروض لتمكينه من مواجهة النّفوذ المصري في السودان، وكذلك مواجهةالأحزاب السودانية التي لم تكن تعتبر مصر عدواً، والتي كانت تدعو إلى وحدة واديالنّيل والحفاظ على علاقات متطوّرة بين السودان ومصر. أمّا المسألة الثانية فتمحورت حولاستثمار إسرائيل أموالاً فيمشاريعَاقتصادية في السودان، وخاصّةً في أراضي المهدي زعيم حزب الأمّة، وفي المشاريع التيتدرّ أرباحاً ماليّة على حزب الأمة.

علاوةعلى ذلك، قال د. محارب،سعْيحزب الأمّة لتطوير علاقاته بإسرائيل ضدّ مصر، أن يزور مسؤول سوداني رفيع المستوىإسرائيل سراً. ولا تزال الملفات التي عالجت المحادثات التي أجراها المسؤول السوداني رفيعالمستوى في أثناء زيارته إسرائيل في الثّلث الأخير من شهر آب (أغسطس)، في طيّ الكتمان. لكن هناك العديد منالتقارير التي تطرّقت إلى زيارة هذا المسؤول السوداني بصورة غير مباشرة، والتي عالجتمقدرة إسرائيل على توفير الدّعم المالي لحزب الأمّة ومسألة إشراك دول عظمى في دعمحزب الأمّة ضدّ مصر عبد الناصر، لأنّ ذلك كان فوق طاقة إسرائيل الماليّة.

وأشارد. محارب إلى أنّ رئيس البرلمان السوداني محمد صالح الشنقيطي، الذي اجتمع إلى عبدالناصر في القاهرة، قدّم تقريراً مفصّلاً وشاملاً عن المحادثات التي أجراها المهدي معالرئيس جمال عبد الناصر. وأخبر الشنقيطي المسؤول الإسرائيلي بالآتي: يعتبر السودانأنّ تعاظم قوّة مصر العسكرية يشكّل خطراً مباشراً على استقلال السودان. ويخشىالسودان من أنّ الحرب المقبلة التي ستشنّها مصر ستوجّه ضدّه وليس ضدّ إسرائيل.

وأنّهناك مصلحة للسودان في إضعاف النظام المصري وفي تعزيز الصّداقة مع المعارضين لعبدالناصر. ولكن حاجة السودان إلى قناة السويس وإلى حلّ مشكلات المياه مع مصر، وإلىسداد ديونه الخارجيّة واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية السودانية، ترْغم حزبالأمّة على مهادنة مصر فيالمستقبلالقريب.

بدأتالاتّصالات بين إسرائيل وحركة التمرّد في جنوب السودان في العام 1963. فمذ ذاك العام وحتى العام 1972، اجتمعكثير من القادة والناشطينالسودانيّينالجنوبيّين إلى مسؤولين إسرائيليين في السفارات الإسرائيلية في أوغندا وإثيوبيا وتشادوالكونغو وكينيا، وقد تعزّزت هذه الاتّصالات والعلاقات وتعمّقت خلال حرب الاستنزافبين مصر وإسرائيل.

وأوضحتالدراسة أنّه لا تزال الملفات المتعلّقة بالتدخّل الإسرائيلي في جنوب السودان في تلك المرحلةمحكمة الإغلاق في الأرشيفالإسرائيلي،ولكن جوزيف لاغو، قائد حركة 'أنيانيا' التي قادت حركة التمرّد في جنوب السودان في تلكالفترة، كشف في مقابلة له مع صحيفة 'هآرتس' الإسرائيلية، النّقاب عن خلفيات التدخّلالإسرائيلي وبداياته وأبعاده في دعم التمرّد في جنوب السودان في تلك الفترة، ويتّضحمن هذه المقابلة أنّ جوزيف لاغو زار إسرائيل واجتمع إلى غولدا مئير، وأشار لاغو فيالمقابلة إلى أنّ إسرائيل لم تزوّد حركة 'أنيانيا' بأسلحة مصنوعة في إسرائيل أوأسلحة غربيّة حديثة، كي لا يتمّ كشف مساعدتها لتمرّد جنوب السودان. ومع بداية وصولشحنات الأسلحة الإسرائيلية إلى جنوب السودان، وصل أيضاً مستشارون عسكريّونإسرائيليون وانضمّوا إلى قواعد المتمرّدين. وذكر جوزيف لاغو أنّ السّلاح الذي حصلت عليهحركة 'أنيانيا' من إسرائيل غيّر موازين القوى وعزّز مكانة الحركة، وبات يحسبحسابها في الصّراع.

وخلصد. محارب إلى القول: فتحت الشقوق والانقسامات الكثيرة في السودان والصراعات على السلطة التياحتدمت فيه، و خاصة في شماله، من دون أن تتطور أو تتبلور آليات لحل هذه الصراعاتوالتناقضات على أرضية وطنية، الباب أمام التدخّل الإسرائيلي في السودان.

وفي كلّ مرحلة منمراحل التدخّل الإسرائيلي في السودان،جيرت إسرائيل تدخّلها لخدمة أهدافها الإستراتيجية لقاء تقديمها المال أو الرّشى للنّخب السودانيةالشّمالية التي تعاملت مع إسرائيل. ففي الخمسينيات من القرن العشرين، أسّست إسرائيل هذا التدخّل علىأرضية العمل ضدّ مصر بقيادة عبدالناصر. وقد قطع قادة حزب الأمّة السوداني في تلك الفترة شوطاًطويلاً في هذا التّحالفمع إسرائيل ضدّ مصر، قبل العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956وفي أثنائه وبعده. وفي أواخر السبعينياتوالنصف الأول من الثمانينيات، أقامت إسرائيل علاقات قويّة بالرئيس السوداني جعفر النميري ونظامه، إلىدرجة سماح النميري لإسرائيل ليسبتهجير عشرات آلاف اليهود الفلاشا من الأراضي السودانية إلى إسرائيلفحسب، وإنما سماحهبإقامة قاعدة لجهاز المخابرات الإسرائيليّة (الموساد) في الخرطوم أيضاً. أمّا في شأن دعم إسرائيل لحركةالتمرّد في جنوب السودان فإنّها أخضعت هذا الدعم لمصلحتها. فعندما كان دعم التمرّد يخدمها، كما كانالأمر عليه في أواخر الستّينياتوبداية السبعينيات من القرن الماضي، أو لاحقاً في التسعينيات،فإنّها دعمته؛ ولكن عندما كان هذا الأمر لا يخدمها، لوجود خادم لها في رأس السّلطة فيالسودان، كما كان الوضع عليه في أواخر السّبعينيات وحتى منتصف الثّمانينيات، فإنّ إسرائيلأبتْ أن تقدّمالدعم للتمرّد في جنوب  السودان