بقلم: صقر ابو فخر

طوال مرحلة التألق الوطني للثورة الفلسطينية المعاصرة، وبالتحديد بين سنة الانطلاقة في 1965 وسنة الحصاد في 1974، كانت عبارة "الوحدة الوطنية" هي الايقونة المقدسة التي يرددها الجميع، والتميمة التي كان الجميع يعتقد انها تحمي الثورة من مخاطر التفكك والانقسام. بالفعل كان الاندماج احد مظاهر العمل الوطني الفلسطيني في مرحلة الصعود. فقد اندمجت في حركة فتح منظمات كثيرة مثل "مجموعة تحرير فلسطين" التي أسسها "خالد الحسن (ابو السعيد)، و"منظمة عرب فلسطين" التي أسسها هايل عبد الحميد (ابو الهول)، و"منظمة أبناء فلسطين" التي أسسها محمود عباس (ابو مازن)، و"شباب الأقصى" (هاني الحسن)، و"المنظمة الفلسطينية الثورية" (ذكريا عبد الرحيم)، وغيرها كثير. وكذلك كانت الحال في الجبهة الشعبية التي ظهرت كاندماج بين "شباب الثأر" (جورج حبش وهاني الهندي) و " أبطال العودة" (فايز جابر وصبحي التميمي) و"جبهة التحرير الفلسطينية" (أحمد جبريل) و" مجموعة الضباط الاحرار" (أحمد زعرور)، وفي الصاعقة التي نشأت كاتحاد بين طلائع حرب التحرير الشعبية ( الفلسطينيون البعثيون) وقوات الجليل الأعلى وجبهة التحرير الشعبية (طاهر دبلان) وجبهة ثوار فلسطين(محمد ابو سخيلة)، وحتى الجبهة الديمقراطية انضمت اليها في بداية انطلاقتها المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين ( عبد اللطيف ابو جبارة ويسار عسكري وحمود الشوني وسمير الخطيب)، و"عصبة اليسار الثوري". غير ان هذا الزخم الوحدوي الذي رافق البدايات لم يلبث ان اخلى مكانه لظاهرة الانشقاق. فانفصلت مجموعة جبهة التحرير الفلسطينية عن الجبهة الشعبية واتخذت لنفسها اسم الجبهة الشعبية – القيادة العامة، وانشق احمد زعرور ومجموعته واتخذوا اسم "منظمة فلسطين العربية"، وانشق حامد فرحان (ابو شهاب) ورفاقه وصاروا "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وبالطبع خرجت الجبهة الديمقراطية من رحم الجبهة الشعبية سنة 1969، ثم انشق عليها ياسر عبد ربه ورفاقه وانخذوا لأنفسهم اسم " الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا). واليوم باتت جبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية والجبهة العربية منقسمة على نفسها الى فصيلين متعارضين. وحدها حركة فتح لم تتعرض لأي انشقاق جدي. وكانت محاولات الخروج عليها مثل حركة ابو يوسف الكايد (1972)، وحركة ابو سائد(1981) مجرد حركات فردية احتجاجية لم تكن لتؤثر على الاطلاق في مسيرتها. أما المحاولة الوحيدة التي كان لها تأثير مؤقت في الحركة فكانت خروج مجموعة ابو موسى وابو خالد العملة في سنة 1983 في أحوال استثنائية ومعروفة. وحتى هذه المحاولة انتهت الى سلوك سياسي يضرُّ ولا يسرُّ. لهذا كانت الدعوة الى الوحدة الوطنية دعوة مسؤولة وحيوية للحفاظ على البيت الفلسطيني الذي يستظل به الجميع اي منظمة التحرير الفلسطينية، ولتنظيم الخلافات تحت سقف هذا البيت بحيث يمكن حل الخلافات بالتشاور والتفاهم والتفاعل بين الفصائل كلها. غير أن الانشقاق الخطير الذي وقع في جسم العمل الوطني، ومايزال يؤثر تأثيراً سلبياً في النضال الفلسطيني، هو الانقلاب في غزة سنة 2007 الذي لم تلتئم الجروح الذي خلفها بعد. لهذا كانت الدعوة الى التصالح والتفاهم على المستقبل وطي صفحة الماضي المؤلمة قضية جوهرية لمسيرة الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال.

العنوان الجديد

باتت قضية المصالحة اليوم اكثر الحاحاً على جدول اعمال القوة الفلسطينية، لأن الحياة السياسية اصيبت بالعطب خلال السنوات الخمس الاخيرة، وشُلّت امكانات كثيرة كانت يمكن توظيفها في سياق النضال الوطني العام. وبالطبع تتحمل حماس المسؤولية الأولى عما جرى في سنة 2007، وها هي اليوم تتحمل المسؤولية ايضاً عن عدم اتمام المصالحة التي بدأت تتخذ مساراً عملياً منذ توقيع الورقة في القاهرة، حتى اعلان التفاهم في الدوحة. لكن، يبدو أن ثمة عوائق كثيرة مازالت تنتصب امام تحقيق الوئام الوطني. فمنذ اليوم الأول لإعلان تفاهم الدوحة ظهرت اصوات عالية تنتقد تفرد الأخ خالد مشعل لإتخاذه هذا الموقف، الأمر الذي يشير الى وجود اتجاه قوي داخل حماس لمنع المصالحة واعاقة السير في تحقيقها. وقبل ذلك كان الاخ خالد مشعل قد اتخذ مواقف ايجابية من الذهاب الى الامم المتحدة لطلب العضوية، ومواقف براغماتية من عملية التفاوض مع اسرائيل. غير ان اوساطاً نافذة في حماس رفضت هذه المواقف الايجابية كلها، ما يجعل اي مراقب يعتقد ان حماس لا تريد المصالحة على الاطلاق، بل تريد بقاء الحال على ما هي عليه. ولعل هذا التفسير يمتلك صدقية عالية ولا سيما ان ثمة قادة في حماس، وبالتحديد في قطاع غزة، يعتقدون ان المنطقة العربية تتحول بالتدريج الى مصلحتهم، من المغرب حيث بات الاسلاميون قوة مؤثرة في الحكم، الى تونس وليبيا ومصر، علاوة على ثقلهم السياسي في الاردن، ثم في تركيا، ينتظرون الثمار كي تتساقط عليهم في سوريا. إن لسان حال هذا التيار الحمساوي يقول: ما دامت الامور تجري على هذا النحو لماذا نقدم تنازلات لحركة فتح والسلطة الفلسطينة؟ لقد فات هؤلاء ان الاجراءات التطبيقية التي جرى الاتفاق عليها في وثيقة الدوحة ليست تنازلات لحركة فتح او السلطة الوطنية الفلسطينية، انما هي "تنازلات" للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية. ثم انها ليست تنازلات على الاطلاق، فالتنازل هو التخلي الطوعي او الاكراهي عما يمتلكه هذا التطرف او ذاك. والمطلوب من حماس للسير في تنفيذ المصالحة انما هو تخلٍّ عما هو مغتصب في قطاع غزة، بل هو مخرج من هذه الحال المهينة التي وقع فيها الشعب الفلسطيني منذ سنة 2007 فصاعدا، اي الانقسام الدموي.

عوائق متعارضة

كان العائق الجدي امام ادماج حركة حماس في المؤسسة السياسية الفلسطينية، اي السلطة، هو الموقفان الامريكي والاسرائيلي اللذان يرفضان التعامل مع حكومة تؤلفها حماس او تشارك فيها. وقد تخطى الرئيس محمود عباس هذه الضغوط مثلما تخطاها عندما ذهب الى الامم المتحدة رغماً عن الارادة الامريكية، واتخذ قراراً لا رجعة عنه في السير في عملية المصالحة مع حماس. فحركة فتح هي "أم الصبي" التي تتخلى عن كثير من المصالح والاعتبارات في سبيل انقاذ القضية الفلسطينية وقبلت حركة  فتح ان يتم تجاوز البيت الفلسطيني الجامع، اي منظمة التحرير، حين وافقت على تأليف هيئة قيادية عليا لادارة العمل السياسي الفلسطيني في المرحلة المقبلة، خارج مؤسسات المنظمة والهدف كان دائماً تسهيل المصالحة وعدم الوقوف عند التفصيلات. غير اننا نشهد اليوم ظهور عوائق حقيقية تقف حائلاً امام تحقيق ما اتفق عليه في الدوحة. وهذه العوائق موجودة في خانة السلوك السياسي لاطراف في حماس يريدون بقاء الامور في غزة على حالها، ويريدون الاستمرار في السيطرة الامنية على القطاع والتحكم في الحياة اليومية للناس بما في ذلك تجارة الانفاق، وهم يعتقدون انهم سيكونون ملوك المنطقة في اطار جماعة الاخوان المسلمين وستتدفق عليهم اموال بعض الدول النفطية. فلماذا،اذاً، التخلي عن ذلك كله والافساح في المجال امام حركة فتح كي تعود الى مشاركتنا السلطة في القطاع؟ ان هذه الطريقة من التفكير مردودة ومبتذلة، لأن لا شيء يعادل الوحدة الوطنية في الوقت الذي تبدو احوال العالم العربي كلها سديمية غير معروفة النهايات. والمراهنة على الخيول الجديدة في المنطقة العربية مع اهمال الحقائق اليومية في فلسطين، وعدم الانصات للقضية الوطنية الشاملة، انما هما تخلٍ عن المبادئ الاساسية للشعب الفلسطيني التي حملها طوال 64 عاماً، وفي رأسها مسألة الوحدة الوطنية.