بقلم/ محمد سرور

خاص/ مجلة القدس، النار التي أكلت جسد البوعزيزي في تونس كانت نهمة، بحيث استطاعت هضم أنظمة وقصور، وأسقطت من قائمة الذاكرة المعاصرة تحالفات ومعسكرات ومسارات طالما اعتقدنا بجذريتها ورسوخها وعصيانها على الترويض والتأقلم مع حيثيات الواقع وأبجدياته المتداولة.

فبدل أن نشاهد حركة "حماس" اليوم  في ذروة قوتها ونشوة انتصارها، ولو احتفاء بانتصار امتدادها وعمقها في أكثر من بلد عربي- خاصة مصر، نراها تراوح في دائرة الحيرة وفقدان الوزن، بل نراها أيضاً تغادر نهجها وتوافقها الصارم، ليظهر إلى العلن حجم التناقضات التي أفرزها الواقع الناشئ، بحيث تتحاشى طرح الأسئلة الصعبة والمركبة.

لنعترف أن الذي يحصل على أرض فلسطين وعلى امتداد الجوار الإقليمي كبير جداً بحيث يلامس الاستراتيجي ويتجاوزه، وهو أكبر من طاقة أية قوة أيديولوجية أو سياسية على مستوى ما تمثل وما تحاول التعبير عنه. فهي أمام حال تتأثر فيه ولا تؤثر، تتبع واقعاً أو نموذجاً وتعجز عن إنتاج نموذجها الخاص الذي يجذب الآخرين إليه.

إن اتفاق الدوحة الذي وقعه الرئيس محمود عباس والسيد خالد مشعل برعاية القيادة القطرية هو تعبير عن حرص القيادة الفلسطينية على الوحدة كأهمية قصوى تفترض إهداءها للشعب الفلسطيني كمقدمة لاجتراح المسار النضالي الوطني الذي يضع  الجميع على سكة الربيع الفلسطيني في مواجهة الوقائع التي ينتجها المسار الاستعماري للطغمة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية. كما تفترض بلورة رأي عام رسمي وشعبي- عربي ودولي، مساند وداعم  للتسوية القائمة على الثوابت الوطنية الفلسطينية بصفتها الحد الأقصى الممكن القبول به من الجانب الفلسطيني.

لكن يبدو أن العديد ممن تذوقوا طعم السلطة والامتيازات في قطاع غزة لم يعد باستطاعتهم التنازل عن امتيازاتهم ولا التزام أوامر القيادة الموحدة التي تختلف بالطبع عن كونها تخصهم فقط أو تراعي سلوكهم ومزاجهم. فهم ابتعدوا كثيراً عن الاهتمام بوحدة الشعب والجغرافيا، وضاعوا وأضاعوا معهم الجميع في التباس أصروا على بقائه منذ الانقلاب المشؤوم في العام 2007، أي أن حماس في غزة سلطة أم ثورة أم كلام؟

الآن يقف الجميع أمام استحقاق تنفيذ الاتفاق، الذي يبدو أن جزءاً من قيادة حماس لا يروقه ولا ينوى التزامه، تحت حجج ومبررات كبرى وهامة حسب رؤيتهم، فيما المأزق يحاكي أكثر من مسألة وقضية، مثل: هل يوجد في حماس داخل وخارج؟ هل يوجد في حماس قيادة غزية وأخرى غير غزية؟ ما هو مفهوم قيادة حماس غزة -  للوحدة الوطنية، وما هي رؤيتها ومشروعها؟

العمل الوطني الفلسطيني ككل بحاجة إلى لملمة وانصهار لكي يستطيع محاكاة واقع ناشئ ومعقد يحتاج إلى سنوات عدة لكي يتبلور وينفرج ويأخذ مساره التاريخي بعد ترميم الإقتصادات الوطنية وتنظيم المؤسسات ورسوخ العلاقات الديمقراطية.

إن لم تفرض القضية الفلسطينية نفسها في هذا الخضام غير المستقر وتستمر تحت قيادة وطنية غير موحدة وخطاب متناقض ومتباعد، فإن العرب وغيرهم لن يصغوا للصوت الفلسطيني، وسوف يحملون الجميع مسؤولية عدم إنتاج الوحدة وصون الحق الذي يتمادى العدو في قضمه كل يوم.. وحدة حماس وإيجابيتها الوطنية ضرورية اليوم.

النقطة الأهم في هذه المرحلة، والتي تؤرق قيادة حماس عن حق هي العجز عن أداء دور الحياد الإيجابي مما يحصل في سوريا تحديداً، كون دمشق تمثل بالإضافة إليها الثلاثي  الإيراني- الفلسطيني- اللبناني، إضافة إلى كونها ممسكة الأوراق وناظمة البعد الإقليمي  للأوراق كافة.

وفي ذات الوقت تنتمي حماس- كبنية فكرية وعقائدية- لمنظومة القوى والبلدان الواقعة على الضفة النقيضة للنظام السوري والقوى الداعمة له، بما فيها حركة الإخوان المسلمين السورية.

المشكلة أن حماس غير قادرة إلى الآن على الانتقال من معسكر الممانعة والمقاومة إلى المعسكر الآخر، لسببين: الأول يعني مغادرتها أحد نقطتي الالتباس، أي المقاومة، والبقاء كسلطة ضعيفة ومحاصرة وفاقدة للشعبية والشرعية. والثاني يعني تفككها كبنية قيادية معدومة الفعل وممنوعة من ممارسة دورها السياسي، كون وجود رموزها في بلدان متعددة ويحظر عليهم الاجتماع في بلد واحد،  ثم أن أكثر من بلد يشترط على هذه الرموز التزام آليات محددة ومحدودة  لنشاطاتها، فيما تتواجد هذه القيادة ككتلة واحدة في دمشق، ومن خلالها تستطيع الاستمرار بلعب الدور الملتبس.

المشكلة الآن، البنى القاعدية لحماس تؤيد ربيع دمشق والتغيير في سوريا أسوة بالتغيير الذي حصل في البلدان العربية الأخرى، فيما قيادة الحركة مصرة على التنقل بين المعسكرين المتناقضين وبلغة تكاد تكون متناقضة ومزدوجة، خاصة عندما تنعدم القدرة على المناورة وتدوير زوايا اللغة والتمنيات. فالجميع يصر الآن على تحديد الموقع والموقف من الأحداث الجارية بدقة ووضوح. هل تستطيع حماس إعلان انحيازها لهذا الطرف أو ذاك، وهل لإعاقة تنفيذ اتفاق الدوحة علاقة بذلك؟

للأسف بإمكاننا الجزم بسهولة استخدام الورقة الفلسطينية كواحدة من  أدوات التناقض والصراع بين قوة التغيير والأخرى المقاومة لها، خاصة إذا تمعّنا جيداً بمصالح الفئة المسيطرة على مقاليد غزة الاقتصادية والسياسية، وإذا استرجعنا تصريحات عدد من قياديي حماس الغزيين أيضاً وعلى أكثر  من مستوى.

ما سبق يعني أننا لن نشهد مغادرة حماس ثنائية الالتباس التي تشابهت إلى حد كبير مع ثنائية الرئيس الشهيد ياسر عرفات، رغم اختلاف الأداء والحيثيات الداعمة لمثل هذا المسار. فالسبب هذه المرة.

ليس تكتيكاً يعكس خطة أو مشروعاً بعينه، ولا مناورة يراد منها التأثير على العدو وحرمانه من القدرة على اختراق البنية الداخلية للقطاع، بل للأسف هي تعبير عن اهتزاز عميق في الإطار القيادي لحركة حماس وعلى ضفتيه تتمركز قوى ومصالح وأسباب راكمتها تجربة سنوات السلطة والقفزات السياسية  لحماس منذ بدأت تتماهى مع مشروع التسوية وملامستها حدود ثوابت منظمة التحرير الفلسطينية. وهنا يستحضرنا السؤال الثاني: هل تم تأسيس حماس بنسختها الحالية على أساس ميثاقي- عقائدي أم على أساس المشروع السياسي الناتج عنه؟ إذ أن التحولات النوعية على المستوى السياسي تمثل مسار حداثي يتجاوز الميثاق الذي يعتبر "الصراع بين العرب والمسلمين والصهاينة في فلسطين- هو- صراع حضاري ومصيري لا يمكن  إنهاؤه إلاّ بزوال مسببه". في الشكل ليس المطلوب التوقيع على الصكوك التي تلزم الاعتراف بإسرائيل وهويتها من أي طرف أو قوة غير رسمية، وبالمضمون فإن الموقعين الرسميين على صك التسوية- إن كنت لها النجاح رغم استبعاد ذلك- فإن التوقيع يتم بناء على محصلة صراع وموازين قوى، لن تبقى على اختلالها وانسيابها مدى الدهر. هذا يعني أن فلسفة التسوية تعكس خلاصة واقع بكامل تجلياته وإمكاناته وأدواته أيضاً.

وعندما يصل العدد الأكبر من قادة حماس المخضرمين إلى هذه الخلاصة، سيكون من الطبيعي الاصطدام بآخرين يرفضون مغادرة النصوص والعهود التي قطعوها على أنفسهم وعلى أبناء شعبهم، فكيف إن كانت هذه الأسباب مسبوقة بأخرى داهمة وجدية من حيث المساس بهم كأفراد ومصالح يملكونها؟

ما يحصل اليوم من تباينات وتناقضات على مستوى التعامل مع واقع اللحظة في حركة حماس ليس بالمفاجئ ولا هو بالحدث الأول الآتي من غيمة صيف، بل هو النتاج الطبيعي لمحصلة المراحل والخيارات وتفاعلات الواقع.

كما أن البنى التنظيمية الشرقية عامة لم تستطع أي منها محاكاة أو مقاربة الهيكليات التنظيمية العريقة في الغرب. فأهم الضمانات لاستمرار وحدتها وتماسكها هي منظومة الفكر والمصالح، وعند حدوث أي خلل في هذين المكونين نشهد حصول الاهتزازات أو الارتدادات المموهة بأسباب أخرى تمثل قابس الاشتعال للسبب الأصلي.

فمنتهى الواقعية اليوم أن نرى حماس الموحدة والمتماسكة، الممعنة في تعبئة قواها وجماهيرها استعداداً لمنازلات مفترضة مع العدو، لأن خلفها أعداداً لا تحصى من الإخوان المسلمين والمناصرين لهم. هكذا ترى حماس مسار الصراع في أدبياتها، ولأجل استكمال هذه الدورة من التعبئة الجهادية المركبة أجلت حماس انخراطها في المقاومة المسلحة عقوداً عديدة. فما هي الأسباب الأخرى التي تمنعها من المباشرة بتنفيذ هذا الخيار الإستراتيجي؟

للرد على هذا السؤال يلزمنا التدقيق بالموقع الفكري- السياسي لحركة حماس، بحيث نبدأ من سؤال آخر: هل حماس امتداد لحالة إخوانية- إقليمية تتماهى معها كمشروع سلطة، أم أن خصوصيتها الفلسطينية تسبق أي التزام آخر منها تجاه الآخرين؟

وإذا كان للآخرين همومهم الكبرى التي تختلف نظرتهم إليها وتعاملهم معها عن السابق- عندما كانوا في المعارضة، وهي هموم تساوي إعادة بناء وتنظيم وتشكيل مؤسسات وأنظمة ومجتمعات، كيف سيكون تواصلهم وتنسيقهم معها، وهل سيبقون الملحق التابع لهم أم سيكون لهم دورهم المميز كطليعة للصراع مع المحتل الصهيوني؟

الحلقة الأهم في سلسلة الحلقات الإخوانية هي مصر. فمن سيقود الآخر ويأخذ بأولويات الآخر، مصر وما تحوي من فعالية وثقل أم حماس الإخوانية في غزة؟

الأيام القادمة تنذرنا بحصول هزات وحالات تمرد وخروج على قرارات ومواقف الحركة الأم، لأننا نشهد محطات متسارعة وأحداث لا تناسب نتائجها كافة الشرائح المؤتلفة في حركة تفترض التشدد والانضباط في هرمها التنظيمي.