الخطاب الذي ألقاه الرئيس محمود عباس أمام وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم الأحد الماضي، اتسم بالإيجاز المعبّر، والشفافية، والمصداقية العالية وبالوضوح الكافي غير القابل للتأويل.
كلماته عن القدس التي لم تعد قدسنا، وعن الاستيطان، تنزف دموعاً ودماء، وكانت كفيلة بتحريك الحجر، وليس البشر فقط، رغم أنه لم يقصد تحريك المشاعر، بقدر ما أنه أراد وضع العرب والمسلمين أمام مسؤولياتهم التاريخية، واستنفار طاقتهم الجماعية للعمل.
تضيع القدس أمام أعين الجميع، تتآكل امام المخططات التهويدية الإسرائيلية وتصادر معالمها التاريخية والحضارية العربية والإسلامية والمسيحية، والخشية أن يصيب الضفة الغربية ما أصابها، فيما العرب والمسلمون، والرأي العام الدولي، يراقبون من بعيد، ما يجري لعروس العروبة وهي تصرخ ألماً كل لحظة، دون مستجيب لدعاء أو صراخ.
كثيرة الأسماء واللجان والمؤتمرات التي تحمل اسم القدس وعنوانها، ولكنها كلها تعجز عن حمايتها، وتقديم ما يعين أهلها على الصمود والمقاومة، وإفشال المخططات الإسرائيلية، التي لا تعير اهتماماً، للخطب الرنّانة، والدعوات والصلوات التي يتلوها القادة والزعماء، الذين أجادوا تدبيج الخطب والكلمات، لكنهم لم يجيدوا العمل.
الخطاب وضع حداً فاصلاً لمهزلة الرباعية الدولية، والتحرك من أجل استئناف مفاوضات، هي أكثر من عبثية، لم تنجح طيلة عقدين في تغيير العقلية الإسرائيلية، التي ترفض السلام، وتقوض الأسس التي يمكن أن يقوم عليها. باختصار فإن السلام مع الحكومة الإسرائيلية ومع هذه المخططات والسياسات، لم يعد ممكناً، لكن خطاب السلام سيظل قائماً، لأنه يتحول إلى تكتيك سياسي ودبلوماسي فعال في توسيع التفهم والتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية.
خطاب السلام، وآليات تحقيقه، بما في ذلك خيار المفاوضات، يتحول إلى حرب سلمية، ومقاومة سياسية فعالة في مواجهة الحرب الإسرائيلية العدوانية، وفي ضوء ميزان القوى، الذي لا يتيح للعرب شن حروب تحريرية، وهو ما ينبغي أن يفهمه الفلسطينيون قبل العرب وغير العرب.
هذا الخطاب، يثير غضب وحنق الإسرائيليين، أكثر من خطابات التهديد باستخدام القوة، في غيابها، فلقد جاءت ردود الفعل من قبل عدد من وزراء نتنياهو، مهددة متوعدة، فيما اعتبره رئيس الحكومة الإسرائيلية إعلان تخل عن مسيرة السلام.
كلمات الرئيس محمود عباس، ذهبت في الاتجاه الصحيح، وتركت آثارها الإيجابية لصالح الفلسطينيين، ولكن كلمات نتنياهو ووزرائه وحاخاماته تذهب نحو توليد ردود فعل سلبية، تزيد من عزلة إسرائيل على المستويين الإقليمي والدولي.
قد لا تحدث الكلمات فرقاً كبيراً، فإسرائيل هي كما تعبّر عن ذاتها، وكما يعرفها العالم أجمع، دولة استعمارية، عنصرية، عدوانية بغيضة، أما الفلسطينيون فهم أصحاب حق، وضحايا، يبحثون عن فرصة للعيش بسلام وأمن على جزء من وطنهم التاريخي، الذي اغتصبت العصابات الصهيونية الجزء الأكبر منه.
يريد الرئيس أن يقول بلسان العرب، للمجتمع الدولي، وللقوى الدولية الفاعلة، إن السلطة التي تشكل عنوان مرحلة السلام لم تعد سلطة، فلقد صادرت إسرائيل عن عمد صلاحياتها، ومسؤولياتها على الجزء الأكبر من الضفة الغربية، حتى تتكيف مع الوظائف المحددة، التي تريدها لها إسرائيل لخدمة مصالحها واحتلالها.
ويريد أن يقول للفلسطينيين أيضاً، أن لا شيء يستحق الصراع والانقسام والتنافس والتآكل، فالسلطة التي تسعون إليها، لا تستحق هذه التضحيات، والأفضل لكم أن تكرسوا جهودكم موحدين لمقاومة المخططات الإسرائيلية الإقصائية الإحلالية.
في الواقع، فإن خطاب الرئيس على إيجازه، وبساطته، يشكل أساساً لمعالجة ما يعرف بالخلاف السياسي والبرنامجي بين الفصائل الفلسطينية، ويجعل الفلسطينيين يقفون على أرضية سياسية واحدة، ينطلقون منها نحو بناء استراتيجية جديدة.
ما يحتاجه الفلسطينيون هو أن يستمعوا إلى بعضهم البعض بإخلاص، وثقة، وأن يتفهموا بعضهم البعض، فمن يقول بالمقاومة، عليه أن يتوسع في إدراكه المفاهيمي لمعنى وأبعاد وأشكال المقاومة، المتاحة والهادفة. وعليه أيضاً، أن يبني مواقفه على أساس الأفعال وليس الأقوال. هذا يعني والمقصود منه، أن خطاب السلام بالمحتوى الذي طرحه الرئيس عباس، هو خطاب مقاومة بامتياز، طالما أنه يغيظ إسرائيل، ويستفزها، وطالما أنه يحقق على المستوى الدولي، المزيد من التفهم والتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته.
ويؤشر خطاب الرئيس إلى الوجهة التي تذهب إليها السياسة والحركة الفلسطينية. إنها ذات الوجهة التي ذهب إليها الفلسطينيون في أيلول الماضي، وتسببت لإسرائيل بصداع نصفي، حين انتقل الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة.
نعم، علينا أن نفعّل اتفاقيات وإعلانات المصالحة الفلسطينية واستعادة الوحدة، وأن نفعّل المقاومة الشعبية والسلمية، دون استثناء لأشكال النضال الأخرى، وعلينا أن نذهب بكل قوة إلى المجتمع الدولي، لنلقي بكل شكاوانا، ومظالمنا، وملفاتنا، في وجه هذا المجتمع وعلى أساس القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة.
باختصار، يترتب على الفلسطينيين أن يقوموا بواجباتهم إزاء أنفسهم وقضيتهم قبل أن يذهبوا إلى العرب المنشغلين بهمومهم الداخلية، حتى لم يجدوا في اجتماعهم سوى أن يؤيدوا القرار الفلسطيني، وأن يقدموا شبكة أمان مالي للسلطة بقيمة مائة مليون دولار شهرياً، تحسباً لقيام إسرائيل باحتجاز أموال السلطة.
العرب اتخذوا قراراً غير واضح، بالدعوة إلى مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية، لكنهم في الواقع، أرادوا أن يهربوا من الاستحقاقات الأساسية، فمثل هذه المؤتمر، لم تقوَ روسيا على عقده بعد مؤتمر أنابوليس، ولا القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة، يتوفر لديها الحماس لعقده، فضلاً عن أنه إذا انعقد، فإنه لن يكون أكثر من عمل سياسي إعلامي، لا يفيد بشيء في تحريك عملية السلام. العرب باختصار ينتظرون القرار الفلسطيني، الذي يترتب على الفلسطينيين اتخاذه بشكل جماعي ووطني، فمتى يحصل ذلك؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها