من بين المآثر التي تسجل للدكتور فتحي عرفات يرحمه الله، رئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الأسبق، تلك الصروح الطبية التي أقامها في زمن الثورة الجميل على امتداد أرض الوطن وفي قلب العواصم المحيطة بنا في العالم العربي، التي بقيت مشعة على امتداد عقود، لتكون خير شاهد ودليل على أننا في هذه القافلة الفلسطينية البطولية الخارقة، في ثورة بساط الريح، لم نكن عبئا على أحد حين نحل في هذه الأرض أو تلك، بل نشع فيها عطاءنا، ونصنع فيها نماذج تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس والأجيال، بينما خبث العداوة لنا، والتحريض علينا يذهب جفاء.بيروت كانت محطة لامعة ومميزة في هذه المسيرة العظيمة حين أنشأت فيها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني سلسلة من المستشفيات المميزة امتدت إلى شمال لبنان وبقاعه وإلى صيدا والجنوب ! وكذلك كانت دمشق حين أنشأت جمعية الهلال الأحمر مستشفاها الشهير مستشفى يافا، وكذلك مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني في صنعاء وفي عمان، بل حتى في القاهرة نفسها التي تشتهر بكليات الطب ومستشفياتها العريقة في القصر العيني والدمرداش وغيرها وغيرها، كانت جمعية الهلال الأحمر حاضرة بجمال لا يضاهى ممثلا بمستشفى فلسطين في مصر الجديدة.عقود من العطاء والتميز وصلها مستشفى فلسطين في القاهرة، وكان علامة طبية بارزة بالنسبة لأهلنا في قطاع غزة قبل إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية وبعدها، ومرجعية طبية موفوقة للفلسطينيين المقيمين في مصر الشقيقة، ولعشرات الآلاف من أشقائنا المصريين الذين تم علاجهم في هذا المستشفى بصفته أحد أرقى المراكز الطبية في القاهرة.منذ سنوات لم أعد أتابع أخبار هذه الإنجازات الطبية التي كانت تنفذها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني معنونة باسم فلسطين، حيث جمعية الهلال الأحمر نسج لها مؤسسوها والقائمون عليها حتى هذه اللحظة أوسع العلاقات العربية والإسلامية والدولية، وكانت دائما محط الثقة والإعجاب من الجميع، وندعو لها باستمرار التوفيق والتقدم.وكان الدكتور فتحي عرفات ومن تحمل المسؤولية بعده في الجمعية يملكون طموحا واسعا، بحيث إن صروحهم الطبية التي أقاموها وزرعوها في فلسطين والعديد من العواصم والمدن العربية لا تختصر فقط على خدماتها الطبية المميزة، بل تعدد ذلك لتكون صروحا ثقافية وشواهد على جماليات الميراث الفلسطيني من هندسة، ونقوش، ومطرزات، ورعاية فعاليات ثقافية وفنية، ولدينا في قطاع غزة على سبيل المثال في مدينتي غزة وخان يونس نماذج مفعمة بالفخامة والجمال ممثلة بمستشفى القدس وتوابعه في حي تل الهوى وفي مستشفى الأمل وتوابعه في خان يونس، وأذكر هنا أن مستشفى القدس في غزة قد لحقته يد العدوان الإسرائيلي الآثم في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009، ولكن الدول الشقيقة وعلى رأسها دولة قطر سارعت إلى إعادة ترميم وتجهيز هذا الصرح الطبي الكبير، وإعادة بناء ما تهدم من مبانيه وملحقاته الضخمة، فألف شكر لجمعية الهلال الأحمر القطرية، ولحكومة قطر، وألف شكر للأخوين العزيزين الدكتور يونس الخطيب المشرف العام على جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، والأخ العزيز الدكتور خالد جودة المدير العام التنفيذي للجمعية ومن معهم في إدارة هذه الجمعية على الجهود التي لا تكل ولا تمل في استمرار حمل الأمانة الثقيلة، داعين المولى أن يساعدهم على حمل أعباء هذه المسؤولية.الخبر الحزين الذي سمعته من بعض الأصدقاء قبل أيام، أن مستشفى فلسطين الشهير في القاهرة يوشك أن يفقد ملامحه الأصلية، وربما يفقد رسالته الأولى، لأنه معروض هذه الأيام بشكل جزئي على بند الخصخصة ! ولا بد أن يكون هناك أعراض مالية قاسية أجبرت القائمين على ارتياد هذا الطريق الوعر، فالخصخصة والذاكرة لا يلتقيان أبدا، والضرورة لها أحكام كما يقولون ! ولكني أتوجه إلى الأخ الصديق العزيز الدكتور محمد أبو حشيش مدير المستشفى، كما أتوجه إلى الصديقين العزيزين الدكتور يونس الخطيب على رأس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والدكتور خالد جودة المدير العام التنفيذي للجمعية، وهم جميعا من الذين حملوا أمانة هذا الميراث الكبير والجميل منذ عقود، أسألهم بدافع الرجاء والأمل، ألا توجد طريقة أخرى ؟ هل يمكن لتحديث الإدارة، وطرق التشغيل، أن تعوض مستشفى فلسطين في القاهرة عن خسائره التي يتحملها، لكي نبقي عليه حاملا لرسالته، وحافظا لذاكرته الفلسطينية الجميلة التي بهرت الجميع ؟لا أعرف ما هي الملابسات بالضبط، ولا أعرف تفاصيل الحقائق والوقائع، وخاصة أن مشروع الخصخصة – كما علمت – سوف يضحي بحقوق العاملين بالإضافة إلى التضحية ربما بالذاكرة الفلسطينية الجميلة ! فهل هناك وسيلة أخرى ؟ هل هناك مبادرة ما ؟ هل هناك حل من نوع آخر يبقي مستشفى فلسطين في القاهرة حاملا لاسمه ورسالته في قلب هذه العاصمة العربية العريقة، لكي نظل نقول باعتزاز أن قافلتنا الفلسطينية العظيمة أينما حلت كانت مصدر عطاء وإبداع وضياء، وأننا رغم جرحنا التراجيدي العميق كفلسطينيين، لم نكن في يوم من الأيام عبئا على أحد، بل كنا دائما دعاة للمستقبل