إحدى السمات المميزة للمرحلة الانتقالية للثورات العربية تبوأ التيارات الاسلامية مركز الصدارة في المشهد السياسي. رغم انها ليست القوى المفجرة للثورة، وسيطرتها على الغالبية في الانتخابات الاولى بعد الثورات كما في المغرب وتونس ومصر، لا يعكس حقيقة موازين القوى في الساحات العربية. مع ذلك على المراقب الموضوعي ان يعترف بثقل وقوة التيارات الاسلامية (الاخوان المسلمين والجماعات السلفيين والصوفية) مع الفارق بين رؤاها للثورة وكيفية تعاطيها مع العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. رغم ان الدين الاسلامي يشكل العقيدة الموجهة والمشردة لتلك التيارات، لكن لكل فريق رؤيته واجتهاده الخاص. والعلاقة فيما بينها ليست علاقة تحالف، انما علاقة تجاذب وتنافس وتناقض، وقد يبلغ في لحظة سياسية لاحقة مستوى التناقض التناحري ارتباطا بالتطورات الداخلية في هذا البلد او ذاك. وان حصل توافق او تحالف فيما بين تيارين او اكثر، سيكون تحالف مؤقت سرعان ما ينفض، لان التناقضات اعمق من نقاط اللقاء بين تلك التيارات.
السمة الدينية، التي التصقت وصبغت الثورات العربية بطابعها، احدثت موضوعيا تحولات استراتيجية في الخطاب الفكري - السياسي. وان كانت مازالت في بداياتها، غير ان مظاهرها لم تعد خافية على اي متابع لمواقف وسياسات القوى الدينية، التي تعمل بكل طاقاتها واساليبها ومنابرها التعبوية والاعلامية لتسيخ البعد الديني على حساب البعد الوطني والقومي. مع انها تتحدث عن العروبة، غير ان حديثها عن العروبة تكتيكي وآني، لان الاصل الدعوة للامة الاسلامية. التي تعتبر بنظرهم الركيزة الكفيلة بتوحيد الشعوب الاسلامية في دولة الخلافة، ومن هنا تتوالى الدعوات لدى كافة التيارات الاسلامية من تونس اى مصر الى الصومال والسودان وفلسطين ... الخ الى نشوء دولة الخلافة. وهو ما يعني تغليب الديني على الوطني. واي كانت المناورات، التي تنتهجها الجماعات والتيارات الاسلامية لفرض هيمنتها على مقاليد الامور في بلدان الثورات العربية، فإنها لا تلغي جوهر ومحتوى توجهاتها الاستراتيجية الدينية وتداعياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي اخذ حزب النور السلفي المصري يعبر عنها باجلى صورها منذ الان، والمتمثلة بملاحقة ومطاردة الحريات الاجتماعية والشخصية والاداب والفنون والمعارف الثقافية والحضارية، ومعالم المدنية المصرية، الذي يبشر بسوء الطالع وبمستقبل مظلم، ان لم تتمكن قوى الثورة الحقيقية من التصدي لتلك العقائد الدينية المتزمتة من الآن فإن الثورة المصرية ستصبح في مهب الريح.
هنا يبرز السؤال هل يمكن الدمج بين الديني والسياسي؟ وهل يمكن توطين الديني ونزعه من بعده الاعم الاسلامي او المسيحي او اليهودي؟ وهل يمكن للدين ان يكون بديلا للوطنية او القومية؟ واين تكمن الخشية من تبوأ الديني دور المقرر في الحياة السياسية؟ وألا يعني احتلال الديني المكانة الاساسية في صناعة القرار هنا او هناك إلغاء الهوية الوطنية والقومية العربية؟
مما لا شك فيه ان الاديان لعبت دورا مهما في التاريخ في توحيد وتنظيم الجماعات البشرية. وساهمت في تطورها، ونقلتها خطوات كبيرة للامام. ومازالت تؤثر في حياة شعوب الكرة الاضية بمختلف اتباعها. لكن منذ وجود التشكلية الاقتصادية - الاجتماعية البرجوازية، ونشوء القوميات ودولها واسواقها، وسيادة مبدأ فصل الدين عن الدولة، لم يعد الدين ناظما واساسا في بناء الدولة، لان الدولة، دولة كل مواطنيها بغض النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم وافكارهم ومشاربهم الفكرية والثقافية. ولا يعني تأسيس الاحزاب الدينية هنا او هناك، ان هذه الاحزاب قادرة على التماهي مع المصالح الوطنية، حتى لو ادعت ذلك لفترة من الوقت، لان الدولة الوطنية او القومية تتعارض مع اي طابع ديني. لان تبوأ اتباع ديانة محددة مقاليد النظام السياسي هنا او هناك يعني الشروع في تلاشي واضمحلال دور الدولة، واخضاعها لمنطق جال الاكليروس والحاخامات والشيوخ والائمة، وبالتالي تبديد اي ملمح ديمقراطي وانتفاء التعددية وحرية الأي والتعبير، وخطف المجتمع نحو الزوايا الظلامية من التاريخ.
ورغم التباين بين حزب ديني وآخر، وبين بلد وآخر ارتباطا بالخصائص التاريخية والاقتصادية والثقافية، غير ان وجود حزب ديني، على رأس نظام سياسي ما بما في ذلك حزب العدالة والتنمية التركي، الذي قبل حتى الان بصناديق الاقتراع حكما بينه وبين معارضيه، وحافظ على الحريات الاجتماعية والفردية، لا يمكن ان يحمي الدولة الوطنية. فحزب العدالة والتنمية المعروف بارتباطاته مع الغرب الاميركي، فضلا عن ان تركيا جزء اصيل من حلف الناتو، ليس بالمعنى الدقيق للكلمة حزب ديني، بل لبس الثوب الديني للوصول الى السلطة، بعد ان فقد المواطن التركي الثقة بالاحزاب الوطنية والقومية العلمانية وكفر بدور العسكر الاستبدادي. لان الدين يتناقض مع وح الدولة الوطنية ومقوماتها. لكن لا يعني ذلك ان اتباع الديانات المختلفة لا يمكن ان يؤدوا ادورا عظيمة لبلدانهم. وهذا الدور يؤدونه كمواطنين متساوين في الدولة مع اتباع الديانات الاخرى.
انظروا الدولة الاسرائيلية، القائمة على الهوية الدينية اليهودية، التي ادعت وادعى الغرب معها، انها الدولة "الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة. هذه الدولة تسي بخطى حثيثة نحو الدولة الثيوقراطية، دولة التزمت والظلام والاستبداد وخنق المتنافس الديمقراطي مهما كان صغيرا. ولا داعي لاستحضار واقع كل الدول الدينية في المحيط العربي او غير العربي. وبالتالي الحديث عن امكانية توطين الديني بالسياسة، ليس سوى تمني، ورغبة في استنهاض الروح الوطنية في قادة الجماعات الدينية المسيطرة على المشهد السياسي في الدول العربية. غير ان تلك الرغبة بعيدة المنال. وغير قابلة للتحقق لان القوى الدينية العربية وخلفياتها الثقافية قاصرة ومحدودة، ولا تستطيع انتاج قوى حزبية قادرة على حمل الهموم وطنية. وهذا لا يعني الانتقاص من مكانتها الراهنة في الشارع العربي وخاصة المصري والتونسي والمغربي والاردني والفلسطيني والليبي والسوداني.
سبب نفوذ التيارات الاسلامية في الدول العربية يعود لضعف القوى الوطنية والقومية والديمقراطية، لانها لم تتمكن خلال العقود الستة الماضية (اي من منتصف القون الماضي ) من بناء الدولة الوطنية القادرة عن التعبير عن مصالح قوى الشعب هنا او هناك، او الربط العميق بين القضايا الوطنية والقومية، وفشلت في خلق والتأصيل لتنمية مستدامة، وفشلت في إفساح المجال لنشوء ديمقراطية حقيقية، فضلا عن عدم تمكن المواطنين من الاطلاع على قدرات الجماعات الاسلامية في الحكم، ونتيجة التخلف، الذي عمقته الانظمة الاستبدادية السابقة والقائمة سمح للمواطنين باللجوء لتلك الجماعات لعلها تحمل الامل بالخروج من ازماتها المتعددة، وايضا بفضل المال السياسي الذي رشت به الجماعات الاسلامية الفقراء والمعوزين، وبث الفتاوي الدينية الكاذبة والملفقة، ونتيجة دعم قوى الخارج وخاصة الولايات المتحدة ودول النفط. جميعها عوامل اسهمت باكتساح الجماعات الاسلامية مقاعد البرلمانات العربية في المغرب وتونس ومصر وفي فلسطين.
رغم ذلك الاكتساح الكبير للمشهد السياسي العربي، لايمكن الافتراض ان الثورات العربية ستسلم بالواقع القائم، لان الجماعات الاسلامية لاكثر من عامل منها الارتباط بالغرب ومخططاته، والاستعداد المعلن للتوافق معها في مختلف القضايا الاساسية الوطنية والقومية، والتي لا يمكن ان تصب في صالح قوى الثورة الحقيقية وقطاعات الشعب المختلفة او القضايا القومية وخاصة قضية فلسطين، فضلا عن الخلفية العقائدية الدينية المتزمتة، لا يمكن لتلك الجماعات التعبير عن تلك المصالح الوطنية والقومية. وبالتالي نجاحها الراهن لا يعني انتصارها وفوزها الى ما لانهاية باصوات الشعوب إلا اذا استسلمت قوى الثورة الحقيقة للواقع البائس وسمحت للجماعات الاسلامية باختطاف الثورات وافراغها من مضامينها التحررية والنهضوية.
لذا امام الثورات العربية مشوار طويل لتجاوز قطوع المرحلة الانتقالية، واعادة العافية لتلك الثورات، وازالة ما علق بها. لان الدين على اهميتة بالنسبة لكل مواطن وعلاقته بالخالق، لايمكن ان يكون بديلا للوطنية او القومية العربية والدولة المدنية، دولة كل مواطنيها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها