بقلم: علي قاسم الفرا

أفتقد العائدون إلى بلدة القرارة شمال خان يونس جنوب قطاع غزة عقب وقف إطلاق النار أدنى مقومات الحياة، لأن الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه على غزة حولها إلى منطقة منكوبة، في محاولة لتهجير سُكانها قسرًا نظرًا لموقعها الحدودي.

وتتميز بلدة القرارة بالسهول والأراضي الزراعية الواسعة وآبار المياه العذبة وبيوت سكنية متباعدة لا يوجد فيها ازدحام سكاني أو ضوضاء المدن.

وتقع البلدة غرب موقع "كوسيفيم" العسكري الإسرائيلي الذي لا يتوانى عن إطلاق القذائف والرصاص على كل من يتحرك قريبًا من السياج خاصة المزارعين ورعاة الماشية.

وأكد سكان المنطقة القريبة من السياج الفاصل أنهم اعتادوا تعرض منازلهم للقذائف والرصاص بشكل دائم وليس خلال الحروب فقط، وأن قوات الاحتلال قد تطلق النار بشكل كثيف لمجرد أن الضباب يملأ الأفق فتتعذر الرؤية.

ووفقًا لأحدث إحصائية أصدرتها بلدية القرارة، فإن الحرب على غزة أسفرت عن تدمير 6000 وحدة سكنية في البلدة بشكلٍ كلي و4000 أخرى بشكل جزئي.

كما أوضحت الإحصائية أن القرارة التي تبلغ مساحتها 11770 دونمًا، ما يعادل 12 كم كانت معظمها أراضي زراعية تشمل أشجار زيتون وحمضيات ولوزيات، إضافة إلى الزراعة الموسمية مثل: الحبوب والبقوليات والبطيخ والشمام، وتم تجريف 60% من مساحتها.

وأكدت أن الاحتلال حرص على هدم 15 بئرًا ارتوازية تملكها البلدية، وخزان مياه كان يغذي نصف القرارة تقريبًا، إضافة إلى عشرات الآبار الخاصة التي امتلكها المواطنون لري أراضيهم.

وأوضح المواطن عبد الله الفرا أن أرضهم البالغة مساحتها 40 دونمًا تم تجريفها بالكامل، ونسف المباني الخاصة بهم، فأصبح من الصعب إعادة تأهيلها نظرًا لانتشار أحجار البيوت المنسوفة إلى مسافة كبيرة، إضافة إلى تجريف الأشجار والتربة لتتحول الأرض إلى كثبان وأودية.

وقال: "أرضنا كانت مميزة بزيتون جودته عالية ننتج منه سنويًا كميات كبيرة من الزيت، وكنا نملك أشجار زيتون تجاوز عمرها مئة عام، أي أنها أكبر عمرًا من دولة الاحتلال".

وأضاف الفرا: "نزحنا من بيوتنا إلى مدينة رفح على أمل العودة عند إعلان وقف إطلاق النار، ولكن عدنا لنجد مجرد أكوام من حجارة وبقايا أشجار مدفونة وأغصان متكسرة، الأمر الذي جعل العودة إلى المكان صعبة للغاية".

وأفاد بأن منطقة القرارة رغم وقف إطلاق النار، فإنه نظرًا لكونها حدودية تتعرض للخطر وإطلاق النار بشكل يومي، وخاصة كلما اتجه المواطنون شرقًا.

وتمنى الفرا أن يحصل سكان بلدة القرارة المدمرة بيوتهم بشكل كامل على بيوت متنقلة (كرافانات)، ليتمكنوا من وضعها في أراضيهم والعودة إلى الحياة فيها ومحاولة إصلاحها، لأنها في وضعها الراهن لا يمكنهم العودة إليها.

بدوره، قال المواطن طارق عبد الإله: إن بيته تعرض للتجريف بشكل يدل على أنه يتم بإشراف مهندسين يكونوا حريصين على أن يصبح البيت آيلاً للسقوط فيجبر مالكه على هدمه بيديه، موضحًا أن التجريف ركز على الأعمدة الرئيسية التي تحمل المنزل.

وتابع: "منزلنا المكون من سبعة طوابق يسكنه 12 عائلة، حيث تنقسم بعض الطوابق إلى شقتين، الطوابق العليا تم قصفها وباقي المنزل دمرت الجرافات أساساته ليصبح شبه معلق، إذ حذرنا مهندس معماري من محاولة السكن فيه، لأنه أصبح آيلاً للسقوط في أي وقت".

وأشار إلى أن الخسائر المادية التي لا تقل عن فقدان المنزل، كانت بتجريف أرضهم الزراعية التي كانت تحوي جميع أنواع الحمضيات والبرتقال والليمون ومشتقاتها، إضافة إلى المشمش والخوخ وأنواع نادرة من البلح والتمور.

من جانبه، عبر المواطن عبد الكريم صالح عن حزنه وألمه وهو يسير بين كثبان رملية وأرض أصبحت قاحلة، قائلاً: "لا أتصور أني أتجول في أرضي التي تميزت دائمًا بأشجار التين والعنب والحمضيات، وأخشى أن تشتد حرارة الشمس وأنا في أرضي لأنني لن أجد مكانًا أستظل فيه، فلم يكتف الاحتلال بنسف المنازل ولكنه عمل على القضاء على مظاهر الحياة كافة".

وتابع: "كنت أملك بئر مياه تغذي الحارة التي أسكنها، مضيفًا أن انقطاع الكهرباء لم يكن يعيقه، إذ كان يمتلك محركًا ضخمًا قادرًا على تشغيل البئر، ولكنه عندما نزح إلى مواصي خان يونس لم يتمكن من نقله فعاد ليجد كل شيء قد تدمر".

وعبر صالح، عن صدمته عندما رأى بيته الذي لم يعد له أثر، وأرضه التي لم يتعرف إليها، فحاول الاستعانة بجيرانه لمحاولة معرفتها نظرًا لاختفاء معالمها المميزة كافة.

كما عبر المواطن سعيد شبير، عن خيبة أمله نظرًا لفقدانه ست مزارع ضخمة لتربية الدواجن، ومزرعتين لإنتاج البيض، إضافة إلى مزرعة لتربية الديك الرومي (الحبش)، إذ تم تدميرها خلال العدوان بشكل كامل.

وأكد شبير، أن قطاع غزة أصبح بمزارعه التي تُنتج اللحوم الداجنة والبيض قادرًا على توفير ما يحتاج إليه المواطن دون الحاجة إلى الاستيراد من الخارج.

وقال: "بدأت عملي بائع دجاج، فعملت على توسيع مشروعي حيث كنت أسعى إلى إنشاء مزارع لتربية الدجاج، وبالاتفاق مع عدد من زملائي وبتمويل من بعض الجمعيات الخيرية وبقروض من البنوك المحلية، تمكنًا من بدء المشروع في بلدة القرارة".

وأضاف شبير: أنه منذ بداية العدوان حاولتُ بيع الدواجن، وتمكنت من بيع الجزء الأكبر منها، وما لبثت قوات الاحتلال أن أصدرت أمرًا بإخلاء المنطقة، وخلال محاولة نقل المزارع وإخلائها من الدواجن قصفت طائرات الاستطلاع مزرعتين، ما أدى إلى إصابة عدد من العمال ونجلي بجروح متوسطة.

وتابع: "رفضت تعريض عمالي للخطر مرة أخرى، فلم نعد إلى المنطقة إلا بعد إعلان وقف إطلاق النار لنجدها أصبحت أثرًا بعد عين، ولم يكن هذا ما حدث لي وحدي، فكل مزارع الدواجن والأغنام وإنتاج العسل تم تدميرها بشكل كامل ومدروس".

وأشار إلى أن القطاع يحتاج إلى سنوات طويلة وأموال هائلة لإعادة إنشاء بنية تحتية من جديد لإنتاج الدواجن واللحوم البيضاء والحمراء، كما أنه مجبر حاليًا على استيراد اللحوم المجمدة، إذ إنه من الصعب الحصول على لحوم الطيور والأغنام الطازجة، لوجود أعداد قليلة منها بأسعار خيالية.

يُذكر أن قوات الاحتلال عملت خلال عدوانها على غزة على إخلاء مناطق الشريط الحدودي كافة، لتحويلها إلى منطقة فاصلة تبلغ 1 كم في بعض المناطق، وقد تصل في أخرى إلى 3 كم.

ومنذ إعلان وقف إطلاق النار، ما زال كل من يتوجه إلى تلك المناطق أو قريب منها يُعرّض حياته للخطر، خاصةً أنه بسبب التجريف الممنهج للبيوت والشجر أصبحت إمكانية إصابة المواطنين أكبر، لعدم وجود ما يوقف الرصاص المنطلق بشكل متعمد أو عشوائي.

وبالرغم من محاولات المواطنين العودة إلى أراضيهم وليس في القرارة فقط ولكن في خطوط التماس كافة، فإن الدمار الهائل وإطلاق الاحتلال النار عليهم لترهيبهم، ما أوقع العديد من الشهداء والجرحى، وهذا يجبرهم على العودة إلى أماكن نزوحهم في انتظار إيجاد حلول.

ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، شن الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، أسفرت عن استشهاد 48,271 مواطنًا، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، وإصابة 111,693 آخرين، في حصيلة غير نهائية، إذ لا يزال عدد من الضحايا تحت الأنقاض، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.