منذ فجر التاريخ غزة كانت وطن الفلسطينيين وأرضها نبع المحبة والحنان لتاريخ عريق وحضارة نسجت خيوطها شمسها وبحرها لترسم ذلك الوجه الجميل للحضارة الكنعانية على أرض فلسطين. غزة ليست مزرعة للديك الرومي، تباع وتشترى بصفقات تجارية، غزة وطن لشعب. والأوطان ليست كلمات أو أرقام بلا معنى، إنها قصة عشق الإنسان لترابه ونشأته وذاكرته. إنها العلاقة الأبدية بين الإنسان والمكان. كيف يفهمها من فقد معناها، لأن الأوطان لا توجد مقاييس لتلك العلاقة المحورية ويقيس الأمور بصفقة هنا أو صفقة هناك، والأوطان لا تباع وإنما تفتدى.
في الولايات المتحدة أصحاب العقارات الخاصة لا يرف لهم جفن في إطلاق النار على أي شخص غريب يقتحم ممتلكاتهم وبالقانون، وهذا الأمر يعلمه الأميركان، والقانون لا يعاقبهم، مما ساهم في نشر ثقافة منع التعديات على الملكيات الخاصة. وهل لي أن أذكركم أن غزة وطن للغزيين وهي ملكهم وحدهم، والوطن يا سيادة الرئيس لا يباع ولا يشترى. غزة آمال وطموحات وذكريات وعشق الفلسطيني وليست مزرعة ينتج فيها الديك الرومي، تفرغونها متى شئتم، عندما يحل عيد الشكر، وتطبخ الديوك في الأفران. وليس الشعب الفلسطيني لعبة شطرنج ودمى تحركونها لرغبات النظام العنصري والأبارتهايد لهؤلاء الذين يرغبون أن يصحوا من نومهم ويرون أن البحر قد ابتلع غزة.
تصريح الرئيس الأميركي ترامب هو تصريح عجيب وغريب ما هي أسبابه وما هي دواعيه التي تخفى على أهل الأرض جميعًا. ما رشح من معلومات هو ما يتداوله الرئيس إفراغ غزة ونقل سكانها إلى أماكن لجوء جديدة لدواعي إنسانية. صاحب الاقتراح هم من المؤسسات الأميركية البحثية في حل النزاعات، من الصعب أن يفهم من في رأسه شيء من العقل والفهم، كيف أنهم توصلوا إلى مثل هذا الاقتراح المشؤوم لنقل شعب يبلغ تعداده على ما يربو مليوني شخص، من أرضه ووطنه إلى مكان جديد، إنه شيء جديد في العلوم السياسية والإنسانية، مبني على أساس الكراهية والعنصرية. إن هذا الاقتراح يا سيادة الرئيس يوحي وكأنه جريمة حرب يتم تنفيذها، وسوف تتسم بها، وصدقني ستجد أن من تخدمهم ستهربون من تلك الجريمة ويقولون أن ترامب من أوعز بها، ولا أعتقد أنك تريد هذا المسمى محرم حرم مع من ارتكب هذه الجرائم ولوث تاريخه وتاريخ شعبه ودولته.
كيف يمكن لنا أن نلوم من لا يعرف معنى أرض لشعب ومعنى وطن، وما هي علاقة الإنسان بمسقط رأسه، وفي ذكرياته معها ألمًا، وفرحًا، وعشقًا، وتاريخًا. الإعلان عن شراء غزة هو تصريح غريب عجيب، لم تدونه كتب وعلوم السياسة. لم يرد في كتب التاريخ مثل تلك الواقعة أن هناك من اشترى وطنًا ليستثمر فيها ويعرض أجزاء أخرى لأشخاص أو دول للاستثمار فيها وتهجير أهلها إلى منافي الأرض. السؤال البديهي الذي يتبادر إلى ذهن السامع أولاً، ممن يريد الرئيس ترامب أن يشتري غزة؟، بمعنى من هو المالك؟، الذي يملك هذه القطعة التي تقدر مساحتها ثلاثمئة وخمسين كيلو متر مربع؟ من هو البائع؟ وهل يملك أحد بيعها؟.
ولو قمنا بعكس السؤال، بمعنى أن الفلسطينيين أو بعضهم يريد أن يشتري إحدى الولايات الأميركية، قل مثلاً نيويورك، هل من الممكن أن نشتريها، ونحن نعلم أن المالك هو الشعب الأميركي. وما هي الإجراءات لشراء تلك الولاية، وماذا يترتب على شراء تلك الولاية. بمعنى هل يحق لنا على سبيل المثال لا الحصر نقل مبنى الأمم المتحدة إذا ما اشترى الفلسطنيون نيويورك؟ وهل يمكن للرئيس ترامب أو لأي من الأميركان أن يزور الولاية مثلاً؟ بعد أن يتملكها الفلسطينيون، وما هي آلية الدخول الجديد إليها؟ هذا يفتح الباب لأسئلة لا حصر لها؟ وأهمها إذا قرر المالك الجديد افتراضًا طرد سكانها إلى خارج حدود الولاية أو منحهم حق اللجوء الإنساني؟. أليس هذا هو الواقع وما ينتج عنه يهدد الأمن القومي الأميركي. وأن هذا ما يعنيه من دخول وتورط الولايات المتحدة في قطاع غزة وبأي صورة من الصور، على كل هذا الذي نسمعه هو درب من دروب الخيال والجنون الذي تفتئت به العبقرية في مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية، ولهذا الموضوع نتائج سوف تسبب التوترات في كل المنطقة.
هنا لا شك ولا بد أن نوضح بأن هذا التصريح فتح الباب على مصراعيه في منطقة الشرق الأوسط أمام تحديات خطيرة تهدد الأمن القومي العربي كله، وتحديدًا المصري والأردني منها بحكم موقع الجوار لفلسطين. فمثلاً مصر التي لها حدود مع قطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، ترى في ذلك بأنه تهديد للأمن القومي المصري، وأن تبعيات ذلك هو حصار لمصر يهدد أمنها القومي، لما تم الحديث فيه عن أطماع صهيونية في الأراضي المصرية لضمها إلى أرض إسرائيل. وما يهدد مصر بالتالي هو تهديد لأمن السودان وليبيا وتونس من الوهلة الأولى لحدوث عمليات التهجير إلى مصر، وهذا سيسبب أيضًا انعكاسات في قضايا تشكل تهديدًا وتحديًا خطيرًا مثل قضايا تجارة المخدرات والسلاح وربما البشر، بمعنى أن هذا الموضوع سيفتح الباب أمام صفقات مشبوهة تهدد الأمن القومي للمنطقة العربية.
إن الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة ونتاج هذا الاحتلال ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية نتج عنها أول الإشارات الصادرة عن المنطقة في رفع وتيرة التوتر السياسي في المنطقة العربية، والذي حدى بمصر اتخاذ إجراءات واستعدادات عسكرية وقائية.
وما ذكرناه عن موضوع غزة فإن الموضوع يتم استنساخه في الضفة الغربية وتتأثر به الأردن وفاقا، وعليه أيضًا فقد ارتفعت وتيرة التوتر في الأردن سياسيًا وعسكريًا أيضًا، وسمعنا التصريحات الملكية الأردنية من على المنابر الدولية، وارتفعت وتيرة التنسيق بين الأردن ومصر وباقي الدول العربية مع السلطة الوطنية الفلسطينية حول مواضيع التهجير والتغير الديموغرافي والجغرافي في إطار الشرق الأوسط الجديد.
لقد قال شاعرنا الكبير محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات. على هذه الأرض سيدة الأرض كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين". وهي غزة فكانت تسمى غزة وصارت تسمى غزة، وعلى أرض غزة ما يستحق الحياة، ولا مكان للغزيين إلا غزة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها