صرح وزير الخارجية الإيراني مؤخرًا بأن حماس قد انتصرت في الحرب الأخيرة. كما تخرج لنا أبواق حماس ومنظريها بنظرية جديدة في العلوم السياسية لم اسمعها قط، تشير إلى نفس النتيجة وهي "أن القوي إذا لم ينتصر فهو مهزوم، وأن الضعيف إذا لم يهزم فهو منتصر".
إن هذه النظرية غريبة جدًا عن نظريات العلوم السياسية، وهي أقرب إلى مقولة العرب الشهيرة "وفسر الماء بعد الجهد بالماء"، والسبب في تشوه هذه النظرية وعدم صلاحيتها هي أنها لا تفسر معنى الانتصار ولا معنى الهزيمة، وبالتالي يقع على القارئ جهد كبير في فهم هذه النظرية المتناقضة في منطقها، وبالضرورة يستسلم للنتيجة المراد من قائليها الترويج لها، وهي أن حماس قد انتصرت في الحرب الأخيرة. وفي النتيجة، فإن انتصارها المزعوم يقدم لها الشرعية في إعادة حكمها لقطاع غزة حتى لو تم تدمير القطاع كليًا واستشهد وجرح أكثر من ربع السكان.
بدايةً، أود أن أقول بأن إسرائيل حتى لو لم تحقق جميع أهدافها في الحرب الأخيرة، وهذا صحيح نسبيًا، فإن هذه المقدمة لا تقود بالضرورة إلى فرضية أن حماس قد انتصرت، حيث يمكن أن تفشل إسرائيل في تحقيق جميع أهدافها في الوقت الذي تكون فيه حماس قد خسرت هذه المعركة، حيث لا يوجد تناقض بين المقولتين، فالضرر الذي وقع على حماس أكبر بكثير من الضرر والتكلفة التي وقعت على إسرائيل.
في الواقع، إن الأدب السياسي يقيس معنى النصر والهزيمة بمقياسين أساسيين: المقياس الأول هو النتائج. بمعنى، إلى أي طرف تميل النتائج لصالحه؟ أما المقياس الثاني فهو التكاليف بمعنى هل تتناسب التكاليف مع المنفعة الحاصلة لكل طرف في نتائج الحرب؟ واذا ما طبقنا هاتين القاعدتين على نتائج عدوان السابع من أكتوبر نجد الآتي:
- أولاً: قاعدة نتائج العدوان
في هذا الإطار، تعكس اتفاقية الهدنة الهشة نتائج العدوان والتي نراها لصالح دولة الاحتلال بشكل كبير، وحتى في ظل عدم معرفتنا بكافة بنود الملاحق السرية في الاتفاق والتي أعلن عن بعضها الإعلام العبري، نجد الملاحظات التالية التي تشير بشكل واضح إلى أن نتائج الاتفاق كانت بالمجمل لصالح إسرائيل. ومن هذه الملاحظات على الاتفاق:
1- إن الاتفاق اقتطع من قطاع غزة 16% من مساحة القطاع كمنطقة عازلة.
2- إن الاتفاق نص على خروج آمن لأكثر من 18 ألف من قيادات حماس العسكرية تحت بند المقاتلين الجرحى.
3- لم يتحدث الاتفاق عن أي بنود سياسية عن اليوم التالي للعدوان، كما أنه تحاشى الإشارة إلى أي صيغة سياسية تتحدث عن الدولة الفلسطينية أو حق العودة أو وقف التصعيد في الضفة وغيرها من القضايا الحقوقية للشعب الفلسطيني.
ويتحدث الاتفاق عن إدارة إسرائيلية عربية ودولية مشتركة لقطاع غزة، فمثلاً تتحكم إسرائيل والولايات المتحدة بمن يدخل ويخرج من القطاع من خلال مكاتب أمنية لهما في القطاع، كما تتحكم شركات أمنية أميركية بتفتيش النازحين العائدين من الجنوب إلى الشمال وتتحكم هذه الشركات أيضًا بإعادة الإعمار وتوزيع المساعدات، وربما تتكشف في الأيام المقبلة أن لهذه الشركات برامج استيطانية في شمال غزة.
4- الاتفاق لا يضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار، ولا توجد آليات للرقابة على وقف إطلاق النار.
- ثانيا: قاعدة التكاليف
برغم أن الاتفاق متوقع أن ينجح في الإفراج عن نحو 1750 أسيرًا فلسطينيًا منهم المئات من محكومي المؤبدات، كما نجح الاتفاق في وقف مؤقت لإطلاق النار، إلا أننا نجد أن هذه المنافع لا تساوي حجم التضحيات الكبيرة التي دفعها الشعب الفلسطيني في حرب الإبادة الجماعية، حيث دمر أكثر من 70% من مباني القطاع، ودمرت البنية التحتية ونزح أكثر من مليون فلسطيني خارج بيوتهم، إضافة طبعًا إلى استشهاد وجرح وفقد أكثر من 200 ألف فلسطيني، وهذه التكاليف الباهظة تعيدنا إلى ذاكرة النكبة الفلسطينية عام 1948، وهذه التضحيات الكبيرة لم يكن ما يقابلها منافع بحجمها، فلم ينص الاتفاق على دولة فلسطينية ولا وقف المستوطنات أو وقف هجمات المستوطنين أو تبييض السجون ولا حق العودة، وكلها قضايا سياسية تعبر عن حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته الوطنية. من جانب آخر، فإن الاتفاق لا يضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار، بل على العكس تشير التصريحات الإسرائيلية إلى أن الاحتلال متحفز اليوم قبل غد لاستئناف عدوانه على غزة، وفي موضوعة تبادل الأسرى، فإن إسرائيل قد اعتقلت أكثر من 6 آلاف أسير فلسطيني بعد السابع من أكتوبر 2023 بدون أسرى غزة، والعدد المتوقع المفرج عنهم في الاتفاق لا يساوي 15% منهم، واستبعد الاتفاق مناقشة الحديث عن الأسرى القادة الكبار مثل أحمد سعدات ومروان البرغوثي وحسن سلامة وغيرهم، كما أن الاتفاق نص على إبعاد مؤبدات الأسرى إلى خارج فلسطين وهذا الإبعاد يشكل سابقة خطيرة بموجبها تعترف حماس بحق إسرائيل في إبعاد الفلسطينيين، ويحرم الحركة الأسيرة من العودة إلى بيوتهم وأبنائهم ووطنهم.
في الإطار السابق، نجد أن حماس خسرت بالمطلق حربها مع إسرائيل، وأن استعراضها العسكري في مراسم تسليم الأسرى الإسرائيليين لا يشير إلى كونها قد انتصرت كما أراد مهندسو التسليم أن يظهروها للعامة بأنهم ما زالوا باقين وقادرين على حكم غزة. ولو كانت العبرة ببقاء السلطة السياسية في الحكم بعد الحروب كمعيار للانتصار لاعتبرنا أن كل حروبنا مع إسرائيل قد انتصرنا فيها.
إن ما دفعني للكتابة بهذا الموضوع ليس إصراري على نقد حماس أو تفنيد روايتها المزعومة بالنصر تمامًا كما فعلت في حروبها الخمس السابقة مع إسرائيل، ولكن الذي دفعني لذلك هو أولاً الأمانة العلمية والنضالية التي تقع على الباحثين وتجبرهم على قول الحقيقة أمام الشعوب، وثانيًا، ضرورة الإفادة بأنه لا يمكن أن ننتصر على إسرائيل بدون أن نعترف بواقع الهزيمة والخسارة، حيث يجب أن نعترف لأنفسنا أولاً ولشعوبنا ثانية بواقع النكبة الثانية التي وقعت علينا، حتى لا تتكرر أخطاؤنا ونتحمل مسؤولياتنا أمام شعوبنا نتيجة لخوض معارك ومغامرات عسكرية غير محسوبة، وهذا مهم، والأهم منه هو أن هذا الاعتراف يساعدنا في تقييم قدرتنا على تحديد البدائل المتاحة التي تضمن لنا الوصول إلى المصالح الوطنية بأقل تكلفة ممكنة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها