يُمثل تحرير أولى دفعات الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي عقب اتفاق وقف اطلاق النار في قطاع غزة لحظةً هامة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، فهؤلاء الأبطال ينعمون بالحرية بعد سنوات طويلة من الأسر، مُحمّلين بتجارب نضالية عميقة وتضحيات لا تقدر بثمن. لكن هذه اللحظة تبرز أيضاً الحاجة الملحة لإجراء مراجعة شاملة لكافة الخيارات النضالية المتاحة، كجزء أساسي من مقاومة الاحتلال وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.

أظهرت تصريحات حركتي "فتح وحماس" عقب تحرير الأسرى توافقاً في أهمية القضية كرمز للوحدة الوطنية، إذ أكدت حركة "فتح" على تمسكها بالحرية لجميع الأسرى، مشيرةً إلى أن الوحدة الوطنية هي شرط أساسي لتحقيق الانتصار، بينما شدّدت حركة "حماس" على أن تحرير الأسرى يثبت صوابية خيار المقاومة. لكن، على الرغم من هذه التصريحات، لا يزال الانقسام الفلسطيني واقعاً مؤلماً يعكس التناقض بين الشعارات والممارسات اليومية.

لم يعرف الأسرى المحررون لحظة استراحة محارب أو مقاتل طوال سنوات أسرهم، فكل لحظة كانت نضالاً مستمراً ضد الاحتلال حتى في أحلامهم. كانوا عمالقة في الصمود بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ورموزاً للوحدة والتحدي، حيث ذابت الانتماءات الفصائلية أمام قسوة السجان، ممّا يجعلهم بلا منازع الأحرص والأقدر على قيادة حوار وطني شامل حول الخيارات السياسية والنضالية، بهدف تحقيق الأهداف الوطنية بعيداً عن التفرقة والانقسام.

عكست تصريحات الأسرى المحررين بعد الإفراج عنهم وعياً وطنياً عميقاً بأهمية المراجعة الشاملة. فقد دعا الأسير المحرر ياسر أبو بكر، الذي أمضى 24 عاماً في السجون، إلى ضرورة تحمل المسؤولية الجماعية تجاه دماء الشهداء، مؤكداً رفضه للاحتفالات المفرطة في حضرة  آلاف الشهداء. من جانبه، شدد الأسير المحرر وائل الجاغوب، الذي أمضى أيضاً 24 عاماً في الأسر، على أهمية الاستمرار في الاشتباك مع الاحتلال في كافة المواقع كجزء من الالتزام بالنضال، مؤكداً أن الوفاء لدماء الشهداء يجب أن يبقى حاضراً في الذاكرة. أما الأسير المحرر محمد الطوس، الذي أمضى 39 عاماً في سجون الاحتلال وتم تحرره وإبعاده خارج الوطن، فقد أكد على ضرورة أن تكون كل خطوة نضالية محسوبة بدقة، رافضاً أن تكون حريته على حساب دماء أطفال فلسطين.

يُعد تحرير الأسرى لحظة نضالية مشرقة، لكنه يظل بمثابة تذكير بأن الطريق نحو الحرية يتطّلب وحدة وطنية حقيقية ورؤية نضالية متكاملة، وأن المراجعة الشاملة ليست مجرد رفاهية سياسية، بل هي ضرورة وجودية لشعب يواجه احتلالاً مستمراً وعدواناً وحشياً متصاعداً. وينبغي أن تشمل هذه المراجعة جميع جوانب النضال الفلسطيني، من التنسيق الميداني إلى استراتيجيات العمل السياسي والدبلوماسي، وهي ضرورية لتحديد مسارات جديدة بعيدة عن الانقسامات والصراعات الفئوية، وتكون في ذات الوقت واقعيّة وفعّالة.

الأسرى المحررون، بما يمثلونه من رمزية عميقة ووجدانية في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، يُعدون الأمل في إمكانية تحقيق المراجعة المنشودة. ورغم أن سنوات الأسر الطويلة تجعلهم أولى بالتمتع بالراحة والحرية التي حُرموا منها، إلا أن الشعب الفلسطيني يُعوّل عليهم بشكل كبير في قيادة مرحلة جديدة، تركز على تقييم الخيارات المتاحة وبناء رؤية وطنية موحدة.

وفي الختام، نؤكد أن تحرير هؤلاء الأبطال يجب أن يكون بداية لمرحلة نضال فلسطيني جديدة، تُعاد فيها ترتيب الأولويات، ويتم العمل على بناء إطار وطني جامع يضمن استمرار النضال نحو الحرية والتحرير.