يكاد المرء يخرج من جلده أحياناً وهو يرى هذا الظلم الفاقع في تمظهراته الوحشية الجهيرة التي تطال الشعب الفلسطيني في معاني إنسانيته، وحقه في العيش الطبيعي أسوة بخلق الله تعالى، ظلموت يطاله في المأكل والمشرب والمسكن، مثلما يطاله في المأمن، والسعي لتحصين حياته بالعلم والثقافة وتوقه إلى العمران، والتمتع بالعز والكبرياء كوجهٍ من وجوه الكرامة.

ومن أجلى صور هذا الظلم، ما يتعرّض له الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية، فهم يعيشون وسط التهديد والوعيد بالفناء، والطرد والتهجير، وتدمير البيوت، والمشافي، والمدارس، وحرق الكتب، والأحلام، وإغلاق أي فضاء يتحدثون فيه عن وطن، وبلاد، وتاريخ، وجغرافية، وعادات، وتقاليد، وأعراف وتصورات. وهم يعيشون أيضاً وسط عداء وحشي مطلق من الإسرائيليين المحتلين لأرضهم، والمقيمين للمستوطنات السارقة الناهبة للأرض والهواء والأمن والأمان، والباحثين عن كل أسباب الشقاء واللوعة والحزن والبكاء لكي تكون هي كل حياة الفلسطينيين، ومن وجوه هذا العداء، فك أي علاقة إنسانية، أو دولية، أو ثقافية، أو سياسية أو اجتماعية ذات رباط أو ارتباط بالحال الفلسطينية، والغاية، من وراء كل هذا، هي بث ثقافة اليأس والإحباط والاستسلام والخنوع في الحياة الفلسطينية كي يكف الفلسطينيون عن المطالبة بحقهم في وطنهم أرضاً وتاريخاً وحضارة، وبحقهم في الحياة المنشودة، ومتطلبات الحياة العزيزة.

الإسرائيليون، وبعد حرب مداها أكثر من 76 سنة، هدفوا إلى أمرين اثنين هما: موت الفلسطيني أو إماتته، وها هم يسعون اليوم إلى فك ارتباط المجتمع الدولي بأي علاقة رابطة له بالحال الفلسطينية. إنهم يريدون محو كلمة فلسطين من القواميس العالمية على اختلافها، أو يريدون إخفاءها كي لا تذكر لأنها تخيفهم وترعبهم وتذكرهم بأنهم محتلون، ولصوص، ومصاصو دماء، وأهل وحشية، وولوغ في ثقافة الحرب إلى حدّ لم تعرفه البشرية من قبل.

ها هم، يريدون إلغاء منظمة دولية، كالأونروا أسستها الأمم المتحدة، وهدفها يلخص بصفتين من صفاتها: هما غوث الفلسطينيين وتشغيلهم، ورسالتها هذه معنية بالفلسطينيين الذين نكبوا بأرضهم وبلادهم حين احتلها الإسرائيليون بمساعدة أذرع الغرب وعقله الشيطاني، وحين تعرضوا إلى تهجير تعسفي ظالم وفاقع في صوره وأحداثه وهمجيته، من قراهم ومدنهم أمام أنظار العالم كله.

أسست منظمة الأونروا، بقرار دولي لغوث الفلسطينيين المنكوبين المهجرين من أرضهم، وتشغيلهم كي لا يموتوا جوعاً، وقد ساندت الفلسطينيين في سنوات اللجوء بما قدمته لهم، وما زالت تساند أبناء الشعب الفلسطيني الذين ما زالوا يعيشون في المخيمات، وفي وجهين أساسيين من وجوه المساندة، هما: التعليم، والصحة، وهي مساندة بسيطة أولية، وليس فيها، أي شكل من أشكال الحلم الفلسطيني، إنها مساندة في التعليم كي لا يعم الجهل، ومساندة في الصحة كي لا تصير المخيمات بيئة للأمراض المزمنة وغير المزمنة.

الإسرائيليون، وبعد أن دمّروا مخيمات الداخل المقامة فوق الأراضي الفلسطينية، مثل مخيم جنين، والدهيشة، والعروب، وشعفاط، وبعد أن طاردوا الرجال وضيقوا عليهم سبل الحياة، واعتقلوهم، وبعد أن جعلوا هذه المخيمات، والقرى والمدن الفلسطينية مستعمرات عقاب، تحيط بها الموانع، والحواجز، والمعابر. يريدون تدمير هذه المنظمة الدولية (الأونروا) لأنها تقدّم مساندة أولية للفلسطينيين كي يجتازوا عقبات الحياة.

لكن الحقيقة ليست كائنة في هذا الوجه الظاهر من مسألة تدمير (الأونروا)، فالإسرائيليون لا يريدون فقط منع الأونروا من إغاثة الفلسطينيين بالطعام والدواء في قطاع غزة، وبعض مخيماتهم في الضفة الفلسطينية، والبحث عن سبل العمل وإيجاده لهم، وإنما يريدون تدميرها وفك ارتباطها بالشعب الفلسطيني لأنها ذات علاقة بالنكبة الفلسطينية، وذات علاقة بملف اللاجئين الفلسطينيين، لأنها تشير صراحة إلى أن الإسرائيليين هم سبب النكبة الفلسطينية، وهم سبب وجود المنافي التي يعيش فيها أبناء الشعب الفلسطيني.

الأونروا تشكل حالة إخافة للإسرائيليين، حالة تهدد وجودهم في البلاد الفلسطينية لأنه كيان احتلالي إحلالي بالقوة، أقامه الغرب الاستعماري لهم، وتعهد بحراسته، الأونروا تعني سر السؤال الجلي: لماذا الفلسطينيون في المنافي؟ ولماذا هم لاجئون في مخيمات ليس فيها من شروط الحياة ما هو كريم ومعافى؟ والجواب كشاف لمأساتهم، لذلك. الإسرائيليون يريدون تدمير وتفكيك منظمة (الأونروا) مثلما يريدون تدمير وتفكيك الحياة الفلسطينية في الضفة والقطاع، والصورة واضحة وجلية، فها هم يدمرون المدارس، والمشافي التي تشرف عليها الأونروا مع أنها كانت ملأى بالفلسطينيين الذين أجبروا على اللجؤ إليها لأنها أمكنة دولية من جهة، ولأنّ مخيماتهم وبيوتهم دمّرت وأحرقت من جهة أخرى.

أجل، هي عربدة القوة العمياء، وعدم خوف الإسرائيليين من أي شكل من أشكال العقاب الدولي، لذلك فهم لا يعرفون سوى القتل والتلذذ به، أو المباهاة به على الأقل، إنهم يدمرون المخيمات والمشافي والمدارس والبيوت ويصورونها، ثم يرسلونها إلى زوجاتهم وعشيقاتهم وأبنائهم كهدايا تشير إلى (بطولاتهم وأفعالهم الخارقية).

الإسرائيليون يخافون ارتجافًا من كلمات وطن، ونكبة، ولاجئ، وعودة، ومقاومة، وكبرياء، وفداء، وبلاد، وعمران، ومجد، وعزة، وجغرافية، وتاريخ، وأحلام. لأنها كلمات لصيقة بالحياة الفلسطينية من جهة، ولصيقة بالأحلام الفلسطينية من جهة أخرى، على الرغم من كل الويلات التي لحقت بالفلسطينيين، وعبر زمن طويل، وأجيال تترى. الفلسطينيون، وكما تراهم العين، ومنذ 76 سنة، يريدون وبجسارة لا تخفى على من يمتلك عينيين ويرى، أن يمحوا آثار النكبة واللجوء بممحاة كبيرة، من أجل عودة ظافرة، فيها العزة والكبرياء، إلى وطنهم الذي هو محبة.. لا تغيب!.