الشاعرة الفلسطينية نهى عودة 

"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (سورة العلق، الآية: 1). هكذا خاطب الله الإنسانَ بالعلم في مُحكم كتابه، حاثًّا إيّاه على التقدّم والتطوّر، وملزمه بطاعته فهو الخالق الواجب الوجود الذي لا يستطيع أحد أن يُؤتى من العلم قطرةً من آياته في السماوات والأرض.

يهب الله سبحانه وتعالى للإنسان عقلا يميّزه عن غيره من مخلوقاته فيكون إمّا شاكرًا وإمّا كفورا، فبعضهم يذهب به عقله إلى حدِّ الإلحاد أو الإبداع أو التفكُّر والتأمُّل في خلق الله وكنه الدين.. أو الاختراعات التي نراها اليوم والتي تُذهِب العقلَ بعظمتها وتأثيرها وانتشارها العالمي. لكن الإنسان بطبيعته يميل إلى جنون العظمة إذا ما اتّخذ التفرّد نهجه والصهيونية العالمية ومبادئها سبيلا. هكذا العلم يحمل سلاحًا ذو حدّين فإمّا مُعمِّرا أو مدمِّرا. 

الفلاسفة المسلمون وسعادة البشرية 

الفلاسفة العرب تناولوا العلم بشكل عميق، وجعلوا منه محورًا أساسيًّا في فلسفاتهم. لقد تأثّروا بالتراث اليوناني والفارسي، ودمجوا بين العلوم العقلية والدينية. كان لهم إسهامات كبيرة في تطوير الفلسفة والعلم في الإسلام، ونظروا إلى العلم باعتباره وسيلة لفهم الكون وتحقيق الخير الإنساني.. بالنسبة لهم، العلم لم يكن منفصلاً عن الدين أو الأخلاق، بل كان جزءًا من النظام الشامل للحياة والفكر، الذي يسعى إلى تحقيق السعادة والفضيلة. وفيما يلي بعض من آراء الفلاسفة العرب عن العلم:

"الفارابي"، وهو الفيلسوف والعالم المسلم "أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي" (872–950م)، ويُعدّ واحدًا من أبرز فلاسفة الإسلام في العصور الوسطى، قال بأنّ العلم والفلسفة هما أدوات لفهم العالم ولتحقيق السعادة التي هي الهدف النهائي للإنسان. وكان يعتبر أن العلم هو وسيلة للتفكّر في الكون وتنظيم المجتمع الإنساني. كان يؤمن بضرورة التوفيق بين الفلسفة والعلم والدين، ورأى أنّ الفلسفة يجب أن تخدم الدين وتعمل على تعزيز الفضيلة بين الناس.

"ابن سينا"، وهو أحد أبرز العلماء والفلاسفة في التاريخ الإسلامي، كان له تأثير كبير في مجالات الطب والفلسفة. اعتبر أن العلم هو وسيلة لفهم الطبيعة وتحقيق الكمال الإنساني، وكان يرى أن المعرفة تُكتسب عن طريق العقل والتجربة. في فلسفته، قدّم نظريات متقدّمة حول العقل والوجود، واعتبر أنّ العلوم الطبيعية والميتافيزيقية مترابطة، ولا يمكن فهم الكون بدون الجمع بينهما. كما أشار إلى أنّ العلم الطبي يجب أن يستند إلى التجربة والملاحظة، وكان له كتاب "القانون في الطب" الذي ظل مرجعًا لقرون في العالم الإسلامي وأوروبا.

"ابن رشد"، كان من أعظم الفلاسفة والمفكّرين الذين سعوا إلى التوفيق بين الفلسفة والعلم والدين. دافع عن استخدام العقل في فهم الشريعة، وأكّد أن العلم والفلسفة لا يتعارضان مع الدين، بل إنهما وسيلتان مختلفتان لتحقيق المعرفة الحقيقية. ورأى أن العلم هو طريق للفهم الدقيق للكون وقوانين الطبيعة، وبالتالي يجب أن يُستخدم لتطوير الفكر البشري. في كتابه "تهافت التهافت"، انتقد "الغزالي" الذي رأى تعارضًا بين الفلسفة والدين، وقدّم رؤية تجمع بين العلم والدين كجزء من نظام معرفي شامل.

ومن العلماء والفلاسفة أيضًا "الكندي" (801-873 م): كان أول الفلاسفة المسلمين الذين تناولوا الفلسفة اليونانية وحاولوا توظيفها في الإطار الإسلامي. و"الغزالي" (1058-1111 م): على الرغم من أنه كان ناقدًا لبعض الفلاسفة، إلا أنه كان له تأثير كبير في مجال الفكر العلمي والفلسفي، وكان يرى أن العلم الذي يخدم الأخلاق والدين هو العلم المفيد، وحذّر من العلوم التي تقود إلى الشكوك أو تنحرف عن الطريق الصحيح.

تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية

تاريخ العلم وفضيلته في التاريخ الإسلامي موضوع واسع ومُتجذّر في حضارة الإسلام منذ بداياته فالعلم من أهم القيم التي دعَت إليها الشريعة الإسلامية، فقد حثَّ القرآن الكريم على طلب العلم ورفَعه إلى مكانة عظيمة، وذلك في آيات كثيرة، نذكر منها:

"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" (سورة الزمر: الآية 9)، وهذه الآية تؤكد على التفاوت بين أهل العلم وبين غيرهم.

في العصر العباسي، وخاصة بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر، شهد العالم الإسلامي ازدهارًا علميًّا كبيرا. وقد كان هذا العصر يُعرف بالعصر الذهبي للإسلام، حيث نشطت حركة الترجمة والتأليف في مجالات العلم المتنوعة. فكانت مكتبة "بيت الحكمة" في بغداد: مركزًا للترجمة والتأليف، حيث تُرجمت الكثير من الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. ومن العلوم التي برزت بقوة آنذاك، نذكر العلوم الشرعية: شُرِع في تقنين علوم الفقه والحديث والتفسير، مما ساهم في تطوير البنية العلمية الإسلامية. والعلوم العقلية والتطبيقية: حيث برز المسلمون في الرياضيات: (أمثال الخوارزمي)، الطب (أمثال ابن سينا والرازي)، الفلك (أمثال البيروني)، والكيمياء (أمثال جابر بن حيان).

كما أن علم الفقه وأصوله يُعتبر أيضًا أحد أهمّ الإنجازات في التاريخ الإسلامي، وهو تطوير علم أصول الفقه الذي يُعدّ من العلوم التي لا مثيل لها في الحضارات الأخرى. كما وأن المسلمون برعوا في الطب وألفوا كتبًا اعتُمدت لقرون في أوروبا، مثل كتاب "القانون" لابن سينا.

ساهم العلم في تطوّر الحضارة الإسلامية بشكل كبير، حيث أثرى الفكر الإنساني، وقدّم إسهامات عظيمة للحضارات الأخرى. ثم نُقلت العلوم الإسلامية إلى أوروبا من خلال ترجمة الأعمال الإسلامية إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث كانت واحدة من الطرق الرئيسية التي انتقلت بها العلوم الإسلامية إلى الغرب، مما ساعد على إحداث النهضة الأوروبية.

 فتاريخ العلم في الإسلام شاهدٌ على تميّز الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات، ومثالٌ على كيف أن العلم كان دائمًا جزءًا من روح الإسلام وسبيلاً لتحقيق الرقي والنهضة.

الأهم من ذلك أنّ في الحضارة الإسلامية، كان هناك دائمًا ربط بين العلم والأخلاق. كان العلماء المسلمون يجمعون بين البحث العلمي والالتزام بالشريعة الإسلامية التي تركز على تحقيق المصلحة العامة وتجنّب الضّرر. على سبيل المثال: الفقهاء والعلماء وضعوا قواعد أخلاقية للأطباء تتعلق برعاية المرضى وحماية حياتهم.

فالعلاقة بين العلم والأخلاق هي علاقة حساسّة جدا. العلم يقدّم المعرفة والقدرة على تحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي، بينما الأخلاق تضع المبادئ والقيم التي توجّه استخدام هذه المعرفة بطريقة تحافظ على كرامة الإنسان وتحمي حقوقه.

العلم صانعٌ للسعادة أم للشقاء؟

العلم بحد ذاته ليس ضارًّا؛ بل طريقة استخدامه هي التي تحدِّد النفع والضّرر. حين يُستخدم العلم لتحقيق مصالح إنسانية وتقدم البشرية، فإنه يمثل قوة إيجابية، ولكن عندما يُستخدم لأغراض غير أخلاقية أو ضارّة، فإنه قد يسبب أضرارًا جسيمة. لذا، من الضروري دائمًا مزج العلم بالأخلاق والتفكير في العواقب الطويلة الأجل لكل استخدام علمي.. وإذا لم يكن العلم مقيدًا بمبادئ أخلاقية، فقد يؤدي إلى نتائج سلبية. أمثلة على ذلك:

الأخلاق: تلعب دورًا مهمًّا في توجيه الأبحاث العلمية نحو أهداف تخدم الخير العام. على سبيل المثال، البحث الطبي الذي يهدف إلى علاج الأمراض وتقليل المعاناة البشرية يتمّ توجيهه من خلال مبادئ أخلاقية مثل حماية الحياة ورفض الضّرر.
البيئة والاستدامة: في مجالات مثل الهندسة والعلوم البيئية، الأخلاق تفرض قيودًا على كيفية استغلال الموارد الطبيعية وتوجّه استخدام التّقنيات بطريقة تحافظ على البيئة للأجيال القادمة.
النزاهة العلمية: العلم يستند إلى البحث عن الحقيقة، والأخلاق تلزم العلماء بالابتعاد عن التزييف أو التلاعب بالبيانات، حيث تتطلّب بعض التطوّرات العلمية الحديثة، مثل الهندسة الوراثية، الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، قرارات أخلاقية مُعقّدة. على سبيل المثال: هل من الأخلاقي تعديل الجينات البشرية لتحسين السمات الشخصية؟ وكيف يمكن ضمان أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم بطرق تحمي حقوق الإنسان وتمنع الانتهاكات؟

هناك عدة طرق يمكن أن يكون فيها العلم قد أضرّ بالعالم، وغالبًا ما ترتبط هذه الأضرار بإساءة استخدام الاكتشافات العلمية أو تجاهل القيم الإنسانية والأخلاقية. فيما يلي بعض الأمثلة:

 - اكتشافات الفيزياء النووية أدت إلى تطوير الأسلحة النووية، مثل القنابل الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أنّ الطاقة النووية لها فوائد في مجالات الطاقة والصناعة، إلّا أنّ استخدامها العسكري أدّى إلى معاناة كبيرة للبشرية.

- جنون العلم أدّى إلى تطوير أسلحة يمكن أن تسبّب دمارًا هائلًا وتهديدًا للبشرية، مثل الأسلحة الكيميائية التي تُستخدم في الحروب وتسبب معاناة للمدنيين.

- التطورات العلمية في مجالات الصناعة والزراعة أدّت إلى استخدام واسع للمواد الكيميائية، مثل المُبيدات والأسمدة، التي أضرّت بالبيئة، مُسبِّبة تلوث التربة والماء والهواء.

 - الأنشطة الصناعية المستندة إلى العلم والتكنولوجيا، مثل استخدام الوقود الأحفوري، أدّت إلى زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، ممّا يُهدِّد مستقبل الكوكب.

أمّا في مجال التجارب العلمية غير الأخلاقية، فحدّث ولا حرج:

- في الماضي، تمّ إجراء بعض التجارب العلمية غير الأخلاقية على البشر بدون موافقتهم وعلى الحيوانات بدون مراعاة سلامتهم. مثل التجارب الطبية النازية، خلال الحرب العالمية الثانية، التي تُظهر كيف أنّ العلم يمكن أن يستخدم بطريقة غير إنسانية.. والتكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة، قد تؤدّي إلى انتهاكات خصوصية الأفراد والتعدّي على حرياتهم، حيث يتمّ استغلال البيانات الشخصية بطُرق قد تضرّ بالأفراد، سواء من خلال المراقبة أو التجسس أو التلاعب بالمعلومات.

- لقد أدّى العلم إلى تطور الهندسة الوراثية والتلاعب بالجينات، ممّا أثار قضايا أخلاقية معقدة. وهناك مخاوف من أن يؤدي التلاعب بالجينات البشرية إلى قضايا مثل تحسين الصفات البشرية بطرق غير طبيعية، أو "إنتاج" كائنات مُعدّلة وراثيًا قد يكون لها تأثيرات سلبية غير مُتوقّعة على الطبيعة والإنسان.

- كما أدّت التطورات العلمية والتكنولوجية إلى إحداث فجوة كبيرة بين الدول المتقدّمة والدول النامية. بعض الدول استفادت من التقدم العلمي لتعزيز اقتصادها، بينما تراجعت دول أخرى بسبب قلّة الموارد أو عدم القدرة على اللحاق بالتقدم العلمي.

- إنّ العلم والتكنولوجيا ساهما في تطوير الأتمتة والروبوتات، مما أدى إلى فقدان الكثير من الوظائف التقليدية، خاصة في القطاعات الصناعية. هذا التقدّم أثّر على الاقتصاد وأدّى إلى زيادة البطالة في بعض المناطق.

هل العلم صديق الإنسان؟

يمكن القول بأنّ العلم هو صديق الإنسان، وذلك لأنّه يسهم بشكل كبير في تحسين جودة حياة البشر وتطوير مجتمعاتهم، كما يساهم في تحسين الحياة اليومية والتطور في الطب والتكنولوجيا.. ممّا يؤدّي إلى تحسين الرعاية الصحية، زيادة متوسط الأعمار، وتطوير وسائل التواصل والسفر والراحة.

العلم يساعد الإنسان على فهم العالم من حوله، من أصغر الذرّات إلى أكبر المجرّات، ممّا يعزّز إحساس الإنسان بالمكانة في الكون ويدفعه إلى السعي نحو المعرفة.  والعلم هو أداة لحلّ العديد من التحديات والمشكلات التي تواجه الإنسان، مثل: الأمراض، المجاعات، التغيرات المناخية، نقص الموارد..

من خلال العلم، يتعلّم الإنسان كيف يفكّر بطريقة منهجية ومنطقية، ممّا يساعده في اتخاذ قرارات مستنيرة ويقلّل من التأثر بالخرافات أو الأفكار غير المستندة إلى أدلة.. إن العلم يقود إلى الابتكار الذي يسهم في تقدم البشرية في مختلف المجالات، سواء في الصناعة، الزراعة، أو التعليم، ممّا يرفع من مستوى الرفاهية العامة.

خلاصة الكلام

إن عدم استخدام العلم بطريقة أخلاقية وتوجيهه نحو حماية البشرية يجعله شيطانا يتنقل في العالم ويدمّره ويبيد العباد، وهذا ما رأيناه في الكثير من الحروب التي حصلَت، ومؤخرا الحرب الشرسة المستعرة على فلسطين واستخدام الأسلحة غير المشروعة وتدمير الإنسان والمكان دون أن تهتز "شوارب" عملاء الأرض والمتحدّيين لعظمة الله، دون الرجوع الى الفطرة السليمة.. "قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ" (سورة: عبس، الآية: 17).

يجب استخدام العلم بحكمة وأخلاقيّة لتحقيق الفائدة للبشرية، حيث إن إساءة استخدامه يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارة بمستقبل البشرية وبكوكب الأرض ذاته، مثل الأسلحة المدمرة أو التلوث البيئي.. لذا، العلم بحد ذاته ليس محايدًا؛ بل يعتمد على كيفية توظيفه في خدمة الإنسان.