نهى عودة "شاعرة وكاتبة فلسطينية في لبنان"
يقضي المرء عمره بحثًا عن مخرجٍ من ذاته أو من محيطه وما فيه من أثقال ومتاعب، وذلك بالتأمّل ومحاولة التّأقلم مع متطلّبات الحياة، فيرى على امتداد قرون التطوّر الرهيب والمخيف الذي أصاب العالم أمورًا وأمورًا تبعث في نفسه من الأمل بقدر ما تبعث فيه من الألم وحتى اليأس.. ولربّما ينطبق ذلك البحث المستمر على الفئة الفقيرة أكثر من الثريّة، فحتى من صنع وبنى الحضارات العريقة هم الفقراء والبسطاء من النّاس و"العبيد".. وهم الذين تطوّرت الكلمة على شفافهم وبين أيديهم. بينما الأثرياء فهم - في الغالب - الذين كُتِبت أسماؤهم في أعلى صفحات التاريخ باعتبارهم هم من أنجز الحضارة والتقدّم، وهم من ارتقى بالكلمة.. ولعل الابتكارات ووسائل الراحة والتسليّة وُجدت من أجل الأغنياء، وأما الفقراء فكانوا يبدعون بأشيائهم البسيطة سُبل ووسائل تأقلمهم مع محيطهم ليقاوموا أوجاعه وأثقاله التي تفتك بأجسادهم وأرواحهم!
وربّما يُمكن القول بأنّ النكتة هي ابنة البسطاء والفقراء. هي وسيلة من بين الوسائل لتستمرّ الحياة برغم كل ما فيها من آلام وأوجاع. وحتمًا لم "تُخترع" النكتة عبثًا، فهي ذات استخدامات متعدّدة منها: السخرية، التسلية، التخفيف من أثقال الحياة.. ولربّما أنه كلما تفاقم الوجع ازداد الطلب على النّكتة والطُّرفة فهما تعكسان حال الناس أيضا مثلها مثل الكتابة على الجدران. فالنكتة هي نوع مبتكر لتخفيف حدّة الألم المنتشر، وإخبار مَن يمرّ من هنا أو يسمع.. إنّ هناك رسالة تقول: ليس الألم ألمك وحدك، ولا الجرح جرحك وحدك، ولا الوجع وجعك وحدك.. لقد وحّدتنا النكتة وفرّقتنا الحدود. ولأهمية النكتة والطرفة في حياتنا كان لا بد من بحث يتناول تاريخ وأهمية النكتة إضافة إلى العديد من آراء الفلاسفة والمفكرين والمثقفين.
يعكس الأدب العربي تاريخًا طويلًا من استخدام الفكاهة والنكتة كوسيلة للتواصل والتسلية، رغم أنّ النقاش الفلسفي حول النكتة ليس بالاتساع نفسه الموجود في التقليد الغربي. النكتة تلعب دورًا مهمًّا في الشارع، حيث تسهم في تخفيف التوتر، وتعزيز النقد الاجتماعي، وتعزيز الروابط بين الأفراد، وتوفير وسائل تعبير جديدة للرأي العام والحياة اليومية والشعبية.
هل النكتةُ جنسٌ أدبي؟
لا تُعتبر النكتة جنسًا أدبيًا قائمًا ذاته، لكنها تُستخدم كأداة ضمن أجناس الأدب الأخرى. تستخدم النكتة لإضافة بعدٍ فكاهي وللتخفيف من حدّة السرد من خلال الطرائف، وهي عنصر يساعد في جذب الانتباه ويكسر الجديّة في النصوص الأدبية.. وقد وُصفت النكتة بأنّها نوع من الأساليب البلاغية التي تستخدم عنصر المفاجأة والتلاعب بالألفاظ لإحداث تأثير كوميدي. أمّا من الناحية الاجتماعية، فتُعتبر النكتة وسيلة للتعامل مع الضغوطات أو لمناقشة مواضيع حساسة بشكل غير مباشر. وأما عن ماهية الفرق بين النكتة والفكاهة، فإنّ النكتة تكون أكثر تحديدًا ومباشرة، بينما الفكاهة قد تكون أوسع وأشمل في مضمونها. وأيضًا، النكتة تعتمد على عنصر المفاجأة، بينما الفكاهة قد تنطوي على تعبيرات متنوّعة من الكوميديا.
مفهوم النّكتة ودورها الأدبي والاجتماعي
النكتة نوعٌ من الفكاهة تُروى أو تُكتب لتسلية الناس وإضحاكهم. وغالبًا ما تحتوي على قصة قصيرة أو موقف مضحك، وتكون ذات نهاية مفاجِئة أو غير مُتوقَّعة تخلق عنصر الفكاهة. ويمكن أن تكون النكتة قائمة على اللعب بالكلمات، أو المواقف الاجتماعية، أو حتى التهكّم على المواقف اليومية. والنكتة هي تعبير مُختصر وذكي يتضمّن مفارقة أو عنصر غير متوقع يُثير الضحك. في الحياة الأدبية، تُستخدم النكتة كوسيلة لإيصال الأفكار بشكل مرح وملفت، ممّا يجعلها أكثر جذبًا للقارئ. ودورها يشمل التسليةَ، وتخفيف الضغط النفسي، وتعليم القيم بطرقٍ غير مباشرة.
النكتة في حياة الناس
تاريخ النكتة يمتدّ عبر الأزمان، وهي قديمة جدًّا في الثقافة العربية. و"جحا" هو مثال بارز لشخصيةٍ تُمثّل النكتة في الأدب الشعبي العربي. كما يُعتبر "جحا" رمزًا للفكاهة والحكمة، وتمثل قصصه شكلًا من أشكال السرد الفكاهي الذي يعكس تجارب الحياة بلمسة هزلية.. وفي العصر الحديث، تطورت النكتة لتأخذ أشكالًا متنوعة، بدءًا من النكت الشفوية إلى النكت المنشورة في وسائل الإعلام والإنترنت. فقد أصبحت النكتة جزءًا من الثقافة الشعبية الحديثة، وتُستخدم في سياقات مختلفة لتسلية الناس وتخفيف التوتر. والنكتة تؤثر بشكل ملحوظ على الشارع والمجتمع بطرقٍ متعددة، منها:
1 تخفيف التوتر: النكتة توفر متنفّسًا للتوتر والضغوط اليومية، في الأوقات الصعبة أو الأزمات، ويمكن أن تساعد في تخفيف المشاعر السلبية وتوفير الشعور بالراحة.
2 نقد اجتماعي: كثيرًا ما تُستخدم النكتة كأداة نقد اجتماعي، حيث تُبرز قضايا سياسية واجتماعية بشكل ساخر. هذا النقد يمكن أن يسلِّط الضوء على المشكلات والفساد بطريقة تجذب الانتباه وتفتح المجال للحوار.
3 تقوية الانتماء الاجتماعي: النكتة تعزِّز الروابط بين الأفراد في المجتمع. عندما يضحك الناس معًا على نفس النكتة، يشعرون بالاتصال والتفاهم المشترك، ممّا يعزّز روح الجماعة والتماسك الاجتماعي.
4 التعبير عن الرأي: النكتة قد تكون وسيلة للتعبير عن آراء معارضة أو غير مقبولة في الأوساط الرسمية، فمن خلال النكتة، يمكن للناس إظهار استيائهم أو انتقاداتهم بدون مواجهة مباشرة.
5 التأثير على الرأي العام: النكتة يمكن أن تؤثر على الرأي العام من خلال نشر الأفكار الساخرة بشكل واسع. وقد تساهم في تشكيل أو تغيير التصوّرات حول قضايا مُعيّنة أو شخصيات لها تأثيرٌ في واقع الناس.
6 التربية والتعلم: في السياقات التعليمية، يمكن استخدام النكتة لجعل المعلومات أكثر جذبًا وتفاعلية، ممّا يعزز قدرة المتلقين على تذكّر المحتوى وتعلُّمه بطرق ممتعة.
النكتة في التربية والتعليم
تلعب النكتة دورًا مهمًا في التربية والتعليم، حيث يمكن أن تساعد في جعل الدروس أكثر جذبًا ومرحًا. واستخدام النكتة في الصفوف الدراسية يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتخفيف الضغط النفسي للطلاب وتعزيز تفاعلهم. كما أن النكتة تساهم في خلق بيئة تعليمية أكثر راحة وتساعد في ترسيخ المعلومات بطريقة ممتعة.
ماذا قال الفلاسفة والمفكّرون عن النكتة؟
لقد تناول العديد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين مفاهيم متعددة لوصف النكتة وتحديد مسارها في المجتمع وما يُبنى عليها أحيانا. تجدر الإشارة إلى أن التفكير العربي التقليدي حول النكتة لم يتناولها بالشكل نفسه الذي تناولها الفلاسفة الغربيّون. لكن يمكن العثور على بعض الأفكار والملاحظات ذات الصلة في الأدب العربي والتفكير الفلسفي والديني. بصفة عامة، يرى الفلاسفة أن النكتة يمكن أن تكون وسيلة لفهم الذات والمجتمع وتخفيف الضغط النفسي والتعامل مع الصراعات الإنسانية بطرق غير تقليدية. وهذه بعض آراء الفلاسفة والمفكرين الغربيين والعرب..
أشار الفيلسوف اليوناني "أرسطو" في كتابه "فن الشعر" إلى أن الفكاهة تعتمد على السخرية والأمثلة البسيطة التي تُظهِر بُعدًا عن الجديّة، مما يجعلها وسيلة لتخفيف التوتر وتحقيق المتعة. ما الفيلسوف البريطاني "توماس هوبز" في كتابه "الليفياثان"، فقد اعتبر أنّ النكتة تنبع من إحساسنا بالسمو على الآخرين، حيث نضحك عندما نرى شخصًا في موقف ضعيف أو سخيف. من جانبه، الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" فقد رأى أنّ الفكاهة والنكتة تعكسان قدرة الإنسان على مواجهة تناقضات الحياة وعدم الجدية، واعتبرها نوعًا من القوة الذاتية والتأمل. في حين رأى الفيلسوف النمساوي "سيغموند فرويد" في كتابه "الفكاهة وإدراكها"، أنّ النكتة تأتي من تحرّرنا من القواعد الاجتماعية والعقلانية، ممّا يسمح بإدخال الأفكار المكبوتة بطريقة غير مباشرة.
وقال العلاّمة "ابن خلدون" في مقدّمته أنّ الفكاهة والطُّرف تعمل على تقوية الروابط الاجتماعية وإدخال السرور إلى النفس. ولم يتناول النكتة بشكل مُحدّد، ولكنه كان يدرك أنّ الفكاهة تلعب دورًا في تهدئة الأجواء وتعزيز التفاعل الاجتماعي. أما "الجاحظ" فقد ناقش، في كتابه "البيان والتّبيين"، أهمية الطّرافة والفكاهة في الأدب والحياة اليومية، واعتبر أن الطّرافة عنصر أساسي في الأسلوب الأدبي، وفي قدرة الكاتب على جذب الانتباه وإدخال السرور على القارئ. ويُذكر أنّ الشاعر الصوفي "ابن الرومي" كان معروفًا بشعره الذي يحتوي على لمحات من الفكاهة والنقد الاجتماعي، ممّا يُظهر مدى تقدير الأدب العربي للكوميديا والنكتة كوسيلة للتعبير والنقد.
خلاصة القول
النكت غالبًا ما تعكس الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة مبسطة وساخرة، مما يساعد الناس على معالجة القضايا المعقدة بطريقة أخف وأقل توترًا. وهي تتضمن رسائل طريفة تُوصلها بطريقة ذكيّة وشيّقة.. وخلاصة القول، إنّ النكتة تلعب دورًا مهمًّا في الحياة الأدبية والشعبية على حدٍّ سواء، حيث تساهم في توفير متعة ذهنية وتخفيف أعباء الحياة اليومية. وتاريخ النكتة في التراث العربي طويل ومعقد، إذ نجدها ممتزجة بالفكاهة والمرح في الكثير من الكتب الأدبية والتاريخية. وتعتبر النكتة نوعًا من التعبير الأدبي الذي يهدف إلى إضحاك الناس وتخفيف التوتر، وقد اتخذت شكلًا مميزًا في الأدب العربي القديم من خلال القصص والطُّرف التي كانت تُروى بين الناس. وأيضًا لم تخل من أحاديث وسهرات الحكواتي المشهور لقرون كثيرة سبقت، ولربما ما زالت تحيا حتى يومنا هذا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها