لو شرَّحنا المشهد العربي العام لأمكن وضع مجموعة من الكلمات المفتاحية التي تتيح لنا وصف الواقع بدقة علمية. أما الكلمات المفتاحية فهي: القتل، التهجير، التكفير، التخريب، التوحش، السبي، بيع النساء، تدمير المتاحف والآثارات، قطع الرؤوس والأيدي، الرعب، الهويات الطائفية المتصارعة، غياب العقل، التنكيل براحة ضمير، كراهية الآخر، اقتلاع المخالفين، اندثار التسامح، موت التمدن، تحطيم الدولة الحديثة، شيوع الرثاثة في المجتمعات، سقوط العداء لإسرائيل، اذياد أعداد الأميين، انتشار مظاهر الخرافة والشعوذة، إدارة الضهر للقضية الفلسطينية. وفي خضم هذا المشهد المروِّع أُصيبت قضية فلسطين بمزيد من التهميش والإهمال. والواضح أن في الامكان إعادة أسباب ذلك إلى أربعة عناصر أساسية هي: الحروب الأهلية المشتعلة في سورية والعراق بالدرجة الأولى، علاوة على اليمن وليبيا؛ انشغال مصر بمشكلاتها الداخلية كلأمن وبناء الدولة مجدداً والتنمية والتشغيل، وبمشكلاتها الخارجية كسد النهضة في اثيوبيا، والمخاطر الداهمة على الملاحة في باب المندب، والإرهاب القادم من ليبيا؛ تقارب بعض الدول العربية ولا سيما في منطقة الجزيرة العربية مع اسرائيل وسقوط جميع محاولات إنشاء نظام عربي للأمن القومي؛ والإرهاب الذي يمتد وينتشر في كل مكان مثل سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا ومالي ونيجيريا والصومال علاوة على أوروبا نفسها.
في هذا المشهد تبدو فلسطين يتيمة، وتبدو قضية فلسطين كأنها ما عادت على جدول أعمال السياسات في المنطقة العربية. وهذا الأمر هو النتيجة المنطقية لتراكمات بدأت منذ ما لا يقل عن خمس سنوات. ومهما يكن الأمر، فإن في الامكان القول ان عام 2015 كان عام الاعلان عن الموت النهائي للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المباشرة وعام ولادة المقاومة الفلسطينية الجديدة. وهذه المقاومة التي لاحت طلائعها في تشرين 2015 راحت تتحول، رويداً رويداً، من عمليات فردية وعشوائية الى عمليات جماعية ومخططة ولو بالحد الأدنى من التخطيط. وهذه المقاومة تقول بالفم الملآن إنه إذا كان هناك من يردد عبارة "تعبنا" ويرغب في الانصراف عن النضال الوطني الى مصالحة، فإن ثمة جيلاً جديداً من الفلسطينيين يقول: "نعم، ما عدنا نحتمل استمرار الاحتلال، لكن لا راحة لنا الا بقتاله حتى يزول". واللافت أن من بين 190 شهيداً سقطوا في متصف شباط 2016، هناك نحو 180 شهيداً من حركة فتح، الأمر الذي يبرهن، مرة جديدة، أن فتح مازالت صانعة الوطنية الفلسطينية، وقائدة الكفاح في سبيل التحرير والاستقلال الوطني.
في عام 2015 سقط أكثر من 170 شهيداً فلسطينياً، وجرى تدمير 450 بيتاً ومنشأة ومؤسسة، وبقي في السجون الاسرائيلية نحو 6800 أسير، وبلغ عدد المستوطنين نحو 650 ألفاً بما في ذلك القدس فماذا ستكون عليه الحال في سنة 2016؟
بلادة أوروبية ورعب اسرائيلية
منذ توقيع اتفاق اوسلو، أي منذ 23 عاماً، صار الميدان الرئيس للقضية الفلسطينية هو الميدان الدولي. وها نحن، على هذا المستوى السياسي، نبدو كأننا لا نملك الا شبح المبادرة الفرنسية. وهذه المبادرة التي أُعلنت في سنة 2014، ثم استيقظت في عام 2016تنص على عقد مؤتمر دولي لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. ويقول صاحبها وزير الخارجية الفرنسية الذي غادر وزارته مؤخراً، لوران فابيوس، إن هذا المؤتمر المقترح، اذا فشل، ستبادر فرنسا الى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. والحقيقة ان المبادرة الفرنسية تلاشت فور اعلانها، وكأنها ولدت ميتة، لأنها لم تمتلك قوة الدفع السياسية؛ فالولايات المتحدة الأميركية دخلت في مرحلة الخمول السياسي الخارجي مع بداية السباق نحو انتخاب رئيس جديد، والاتحاد الأوروبي نفسه، لم يتبنَّ المبادرة التي تحفظت عنها الولايات المتحدة، وأخيراً استقالة لوران فابيوس من وزارة الخارجية. وفي أي حال فإن أوروبا حتى لو اعترفت بالدولة الفلسطينية، وهو أمر مهم، فإن الأهم هو ما ستفعله في اليوم التالي. والواضح أن أوروبا لن تفعل شيئاً من دون أميركا.
الجديد المتحرك هو ما يجري في اسرائيل، وهو أن النزاعات الداخلية فيها ما عادت تجري على النمط الاوروبي، أي بين يسار ويمين ووسط، بل إن تلك المنازعات باتت تدور اليوم بين المتدينين المتطرفين والمستوطنين من جهة، وبين الليبراليين اليمنيين من جهة مقابلة. وهذا الامر يعد تحولاً نحو العالمثالثية. فاسرائيل تقع جغرافياً في العالم الثالث، ومعظم سكانها هم من يهود العالم الثالث، ومشكلاتها الداخلية صارت تشبه مشكلات العامل الثالث كالتفاوت الاجتماعي وصعود مكانة المتدينين، والعنصرية وتهميش فئات ذات طابع إثبي...الخ، وهذه الامور كلها ترفع مستوى العنف والفاشية. غير أن أخطر ما ستواجهه اسرائيل هو التالي: في عام 2016 تساوى عدد اليهود والفلسطينيين في فلسطين التاريخية. وهذا التساوي سيكسر، لأول مرة التفوق السكاني اليهودي الذي أنتجته حرب 1948. وسيترتب على ذلك معضلة؛ صعبة؛ فاليهود سيصبحون في السنوات المقبلة أقلية. ومع ذلك، فإن هذه الأقلية تسيطر على شعب يفوقها عدداً. وفي هذه الحال ستتحول اسرائيل الى دولة تطابق تماماً دولة الفصل العنصري التي كانت قائمة في جنوب أفريقيا.
هل تستطيع اسرائيل ان تردم الفجوة الاجتماعية بين الفئات اليهودية المختلفة، وأن تتعايش، ولو اقتصادياً، مع الشعب الفلسطيني من خلال استخدامها الوسائط المالية والاقتصادية؟ إن الدافع لهذا السؤال هو أن اسرائيل مقبلة على رفاه اقتصادي جديد؛ فمكامن الغاز في البحر قبالة الشواطئ الفلسطينية تحتجز مليارات الامتار المكعبة من الغاز، وربما النفط. ويلوح في الافق، منذ اليوم، محور اسرائيلي – قبرصي – يوناني، فضلاً عن تنسيق متعدد الوجوه بين اسرائيل ورومانيا وبولندا ربما يتحول الى حلف سياسي. وترغب اسرائيل من هذا الحلف في تقوية علاقاتها بهاتين الدولتين، علاوة على ألمانيا، كي تمنع تبلور أي مبادرة أوروبية في المستقبل في شأن قضية فلسطين. أما المحور الاسرائيلي – القبرصي - اليوناني، فهو محور اقتصادي بالدرجة الاولى . وتأمل اسرائيل ان يؤدي الاقتصاد دوره في ابعاد قبرص واليونان، ولو جزئياً، عن تأييد الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل التحرر الوطني والاستقلال.
ملامح 2016
لا حل للقضية الفلسطينية في المستقبل المنظور. الصمود في المكان والانتظار الايجابي قد يكونان من الخيارات الفلسطينية الضرورية. وفي هذه الاثناء سيتارى كثيرون في الكلام على حل السلطة الوطنية الفلسطينية، وسيتوقع آخرون انهيار هذه السلطة جراء عدم تحقيق انجازات سياسية ملموسة.واعتقد ان هذا الكلام الدائر في الافواه منذ عدة سنين برهن انه مجرد لغو ولا قيمة سياسية له، وهو لا يتعدى الثرثرة الفارغة. فالفلسطينيون هم سيزيف العصر الحديث، وكلما تدحرجت الصخرة من أيديهم نزولاً، سيعيدون دحرجتها صعوداً الى ان يظفروا بالنصر.
في هذا الميدان ستحاول اسرائيل، وبالتحديد حكومة نتنياهو، أن تقنع الولايات المتحدة واوروبا بفوائد "الحل الاقتصادي" للفلسطينيين. وهذا الحل يتضمن تحسين حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتقديم تسهيلات للعمالة الفلسطينية في اسرائيل، وتخفيف الحواجز في داخل المدن الفلسطينية وبين المناطق الفلسطينية في الوقت نفسه، ومنح السلطة الفلسطينية هبات وقروضاً ميسرة من أميركا ودول أوروبا بهدف المزيد من الاسثمارات التشغيلية والخدمية. ويعتقد الاسرائيليون أن من شأن ذلك تخفيف شعور الفلسطينيين بالغبن والاضطهاد، وتجنيب الشبان مشكلات البطالة.
إن "الحل الاقتصادي" مجرد وهم من أوهام اليمين الاسرائيلي. فالقضية الفلسطينية ليست قضية انسانية كي تُحل بالاحسان العالمي، وليست مشكلة اقتصادية فتُحل بالاستثمارات والمعونات، إنما هي قضية تحرر وطني لا تُحل الا بنيل الشعب الفلسطيني حريته التامة. وهذا هو جواب هذا الشعب منذ خمسين سنة، أي منذ أن أطلقت حركة فتح الرصاصة الأولى في الثورة الفلسطينية المعاصرة. وها هي فتح ما برحت، حتى اليوم تقدم الشهيد تلو الشهيد في ملحمة من البطولة يخوضها فتيان فلسطين الآن في الاراضي الفلسطينية المحتلة. ألم نقل لكم أن 180 شهيداً فتحاوياً سقط منذ تشرين الثاني 2015 من بين نحو 190 شهيداً؟ لنتأمل في هذا الحدث في سياق التفكير في ما هو ممكن وفي ما هو مستحيل في عام 2016.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها