بقلم: فاطمة إبراهيم

إنه اليوم الأول لفقدان والدة لأربعة من أبنائها مرة واحدة بقصف إسرائيلي في قرية مثلث الشهداء إلى الجنوب من مدينة جنين.

حين التقيناها في بيت العزاء صباح اليوم، كانت تردد جملة واحدة، تعيد تكرارها مرة بعد مرة، "كيف سأعود للبيت من دونهم؟، كيف سيمضي الباقي من عمري في غيابهم؟".

في المنزل الذي يضم بيت عزاء أبناء أم علاء درويش الأربعة، ثمة صوت لسيدة تلقي موعظة دينية، عن كرامة الشهداء، فيما تلتف حولها المعزيات بأعداد كبيرة، حزن كبير يخيم على جو المنزل، وتجلس أم علاء وسط الحضور بهدوء لافت، وبصبر قوي، تقول إنها لم تتوقع أن تفقد أربعتهم مرة واحدة، "أخبروني أن واحداً منهم استشهد، ثم قالوا اثنان، لكن الأربعة لم أتوقع أبدا"، تقول درويش.

بدأت قصة الشهداء الأربعة ووالدتهم، قديمًا، حين اضطرت العائلة إلى مغادرة الأردن، مكان إقامتهم قبل 10 سنوات، والعودة إلى مسقط رأسها في قرية مثلث الشهداء، لعلاج الأخوين هزاع ورامي درويش.

كان قرارًا صعبًا أجبر الوالدة على حمل أبنائها التسعة والانتقال بهم إلى الضفة الغربية، فيما بقي الوالد في الأردن، لعدم إمكانية دخوله للأراضي الفلسطينية لأنه لا يحمل الهوية الفلسطينية.

وتابعت، "بينما كنا في الأردن، أصيب رامي في يوم العيد بخرزة في عينه، وكان يبلغ من العمر 10 أعوام، وفقد البصر فيها، في الفترة نفسها اكتشفنا مرض شقيقه هزاع الذي كان يبلغ من العمر 20 عاماً بمرض الكلى وحاجته إلى غسيل كلى مستعجل، كان وضعنا الاقتصادي سيئاً جداً، ونحن عائلة كبيرة، وبيتنا مستأجر، فقررت العودة إلى بلدتي ومحاولة علاج أولادي،".

وأضافت: "حاولت البدء بالعمل هنا لتأمين العلاج للأولاد، فسجلت هزاع في وزارة الشؤون لتغطية تكاليف علاجه، أما رامي فقد أخبرني الأطباء أن إمكانية عودة البصر إلى عينه المصابة مستحيلة بعد تهتك الشبكية فيها، فعاش رامي بعين واحدة، وكنت أنا عينه الأخرى طوال سني حياته".

كان هزاع مصابًا بالفشل الكلوي الحاد، ويخضع للغسيل الكلوي المستمر على برنامج العلاج كل يومين، تقول والدته إنها كانت تحلم في توفير مبلغ يمكنه من زراعة الكلى والعيش بشكل طبيعي، حاولت مع أبنائها السبعة العمل في الزراعة والبناء لتأمين عيش كريم لهم، قبل أن يصاب ابنها الأوسط أحمد برصاص قناص في الفخذ قبل عامين، ويفقد العصب الرئيس فيها.

كان حلم الأم وأبنائها شراء قطعة أرض وبناء منزل مستقل لهم، وكان التواصل مع والدهم يقتصر على المكالمات الهاتفية فقط، واليوم تلقى الأب خبر استشهاد 4 من أولاده عبر اتصال هاتفي، بعد أن حُرم من رؤيتهم لمدة 5 سنوات.

تقول درويش: "لم أستطع الاتصال به حتى هذه اللحظة، لا أعرف كيف سأخبره بهذه المصيبة، ماذا أقول له؟ راحوا الأولاد يا أبو علاء؟؟ ما ضل حوالي حد منهم؟؟ كيف يمكنني التحدث معه لا أستطيع؟".

وتضيف: "أولادي كانوا أصدقائي، وإخوتي، وكل أقربائي في هذه الحياة، فعشت معهم أياماً صعبة جداً، وتحملنا الكثير، وكنا في منزل صغير لا يتسع لهم جميعاً، فكان أحمد ينام في فناء المنزل لأنه لا يوجد له مكان في الغرفة، على الرغم من مرض هزاع تعلم تمديد الكهرباء وكان يعمل ليل نهار لتوفير العلاج له ومعاونتي، أولادي عاشوا أياماً صعبة، وكان حلمهم أن نؤسس لمنزل ملك لنا يتسع لنا، اليوم فقدت أربعة منهم، قبل أن يؤسس المنزل وقبل أن يسكنوه".

بغصة كبيرة، تتذكر أم علاء آخر سهرة لها مع أولادها، تقول إن رامي أعد العشاء للكل، ثم ناداها هزاع للجلوس معه، فيما أشغل أحمد الأرجيلة وطلب منها أن تسهر بقربة لحين انتهائه من تدخينها.

"الكل كان يحسد أولادي على طبيعة علاقتي بهم، كانوا يسألون علاء كيف لك أن تمزح مع أمك بهذه الطريقة وكأنها صديقتك، أنا أخشى العودة للمنزل وحدي اليوم، كيف سأدخله دونهم؟" تقول.

وتضيف، "كان هزاع الأقرب لي، فكنت أخاف عليه كثيراً لأنه مريض، وكان دائم القرب مني، فكان يجلس في حضني، ويلف يديه حول رقبتي، وكنت أقول له أنت تضايقني فكان يرد، لا أعرف كيف تتضايق الأم من ابنها ولا تتحمل أن يجلس في حضنها".

وعن لحظة استشهادهم تقول أم علاء، إن ابنها محمد الذي يعمل في حسبة قباطية اتصل بها فجر الأحد وقال لها، إن أخبارا تفيد بقصف طائرة للاحتلال مجموعة من الشبان على دوار الشهداء القريب من منزلهم وسألها عن أشقائه، وحين فتحت هاتفها رأت فيديو لمجموعة من الشبان ملقين على الأرض وتغطيهم الدماء، فأحست أن واحدا منهم هو علاء، "أخدت ابني الي عندي بالدار وحكيت له بدي انزل لمكان القصف أخوتك هناك، ولما وصلت قالوا لي أن رامي استشهد وأحمد مصاب".

في المستشفى كانت أم علاء تسير بين أسرة المرضى وتسأل، "وين اولادي، كلهم راحوا مضلش حدا عندي، مضلش حدا"، حيث فوجئت باستشهاد أبنائها الأربعة علاء، وأحمد ورامي وهزاع.

وفي الطرف الثاني لبلدة مثلث الشهداء، كان منزل عزاء آخر يقام للشهيدين الشقيقين محمد ووديع ياسر عصاعصة، الذين استُشهدا في القصف ذاته الذي راح ضحيته أبناء أم علاء الأربعة، وعلى مدخل المنزل عُلّقت صورة كبيرة للشهيدين الشقيقين، فيما كانت غرفة الاستقبال تعج بالمعزيات.

تجلس والدة الشهيدين بجسد هزيل، وتستقبل النساء، تقول إنها فقدت قبل خمس سنوات ابنها البكر في حادث سير، واليوم تفقد شقيقيه الاثنين شهيدين، وبذلك تكون قد فقدت أولادها كلهم، "انجبت 3 شبان، الحمدلله اختارهم الله، ورحلوا عني وبقيت وحيدة في هذا المنزل" تقول.

وتضيف: "هذا ابتلاء صعب جدًا، أولادي في أول حياتهم، لم يعيشوا شيئًا في هذه الحياة، رحلوا باكرًا".

وتستذكر أم محمد صفات أولادها فتقول: "كانوا ملتزمين، يحافظون على صلاتهم، والكل يشهد لهم بالأخلاق، الحمدلله، كانوا بارين بي وبوالدهم، أسأل الله أن يصبرني على هذا البلاء العظيم".

وصعّدت قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليات القتل والاستهداف للمدنيين الفلسطينيين خلال اقتحامها لمدن الضفة الغربية ومخيماتها وبلداتها، وتطلق النار بشكل عشوائي ومركز وتستخدم الطائرات المسيرة والموجهة بهدف القتل، حيث تسبب استهدافها للمواطنين العزل في منطقة مثلث الشهداء أمس باستشهداد سبعة شبان قُتلوا بدم بارد، كما قتلت ثلاثة شبان الليلة الماضية في ضاحية اكتابا بمدينة طولكرم، ومثلت بأحد الجثامين ودعسته بعجلات آلية عسكرية.