بداية الكلام: قد يكون الكاتب محمود شقير هو الوحيد الذي يُمكننا اعتبار كلّ رواياته والقسم الكبير من قصصه القصيرة سيرة ذاتية، يروي فيها سيرة أسرته وعشيرته وسيرته هو، فقد عرّفنا في سيرته المُتعدّدة الأجزاء على الكثير من شخصيات العشيرة (عشيرة الشقيرات) الرجال والنساء، ولم يتركّز فقط في إظهار الجوانب الإيجابية للشخصيات وإنّما تعرّض للكثير من السيئات المُدانَة والمرفوضة، كما أنه عرّفنا على أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة من الأبناء والبنات والأشقاء والأحفاد، وجعلنا من حيث لا ندري شركاء الأسرة والعشيرة وأفرادا قريبين محسوبين عليها.
وحبُّ محمود شقير لعشيرته برجالها ونسائها ولكل فرد من أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة يبرز بوضوح في تسمية الأفراد، ورواية سيرتهم ونوادرهم وما ميّزهم، وفي تَرسّمه لكلّ الأماكن التي عاش فيها معهم وحنينه للزمن الجميل الذي كان له برفقتهم وقربهم. 
وكما خصّ محمود شقير عشيرته وأسرته برواياته والكثير من قصصه القصيرة هكذا كان تخصيصه للأماكن التي عاش فيها زمنا قصيرا أو طويلا العشرات من الصفحات وآخرها كان كتابه الجميل "تلك الأمكنة"، وخصّ الأزمنة التي عاشها بحلوها ومُرّها كتابا لا يقلّ جمالا باسم "تلك الأزمنة".

وباختتام محمود شقير هذه السيرة الطويلة القصيرة بهذين الكتابين المُميزين يكون قد استوفى الركائز الأساسية للحياة الدنيا التي بدونها لا تكون للحياة قائمة ولا قيمة، وتكون عبارة عن فراغ هائل لا حدود له، ولا تجد ما يُبشر بتَغيّر قريب أو بعيد.. فحياة الإنسان تتشكّل ما بين إطارين يُحدّدان حياته التي قد تقصر وقد تطول، وبتَوحّد هذين الإطارين مع الإنسان تتحقّق الحياة المعيشة ويتكوّن الوجود وتعمر المعمورة. وبدون أي واحد من هذا الثلاثي المتلاحم لا يكون الوجود ولا تكون الحياة.
الأول هو الإنسان محور الوجود وأساسه وقيمته العليا، والذي بافتقاده تفقد الحياة قيمتها ولا تكون لها غاية تستمر لتحقّقها. 
والثاني هو المكان الذي هيّأه الرب للإنسان " ولكم في الأرض مستقر ّومتاع إلى حين. فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخْرَجون" (سورة الأعراف آية 24/ 25) المكان الذي يحتضن الإنسان ويوفّر له الراحة والأمان والثقة بالنفس والبيئة المعيشية التي تغرز فيه عشقا خفيّا لهذا المكان فيظلّ متعلقا به طوال حياته ويدفعه ليبحث عن الجديد والأفضل، لكنه أيضا يصقل الإنسان ويُكسبه ميّزته الخاصّة التي يصعب عليه الخلاص منها. في المكان يستطيع الإنسان أنْ يتحرّك بحرية واستقلاليّة فيتنقل ما بين الأمكنة، قد تقصر إقامتُه في هذا المكان وتطول في الثاني، وقد يحبّ مكانا ويَعاف الآخر، وقد يلقى السعادة والشقاء في المكان نفسه. ولكنه في كلّ الحالات يستطيع تَرْكَ المكان والابتعادَ عنه، وحتى تناسيه ومَحوه من ذاكرته.
لكنّ للمكان عند الإنسان تظلّ العلاقة المحفورة في عُمق تكوينه، ففيه وُلد وكبر وعرف الذين يحيطون به، تكلّم لغتهم واعتنق عاداتهم وتقاليدهم وانتمى إليهم، ومهما حاول التّخلّص من تأثيراهم عليه تبقى بعضُها لاصقةً به حتى يومه الأخير. ويظلّ المكان، مهما ابتعدنا عنه وبدّلناه يوميا يحتفظ بخصوصيّته وفَرادته ومعزّته وتشدّنا إليه نَزعة لا نستطيع الحدّ منها، دائما نَحِنُّ إليه ونرجو العودة ولو للحظات.
والثالث هو الزّمن الذي حدّده الرب بقوله "إلى حين" فبقاء الإنسان في الأرض لمدّة مُحدّدة بانقضائها يُخرجه الربُّ منها "فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" (الأعراف) ولكنه يختلف عن المكان في علاقته بالإنسان حيث أنّه يتَحكّمُ بالإنسان ويرصد خطواته وتطوّره، ويُكبّله ويقيّده ويُحدّد مسارَه ويُطارده أينما توجّه، لا يتركه طليقا حرّا ليُحدّد ساعات الزمن التي يريد وكيفيتها وتأثيرها ومُدّتها، فهي عَصِيّة عليه، لا يملك من أمرها شيئا، يظل في قلق على الغد وفي رفض للواقع وحنين كبير للماضي القريب والبعيد. دائما يتباكى على ماضيه والزمن الذي كان ولن يعود، يتمنّاه ويحنّ إليه، ويراه الزمن الجميل الذي كان.  
محمود شقير في انطلاقه بين الأمكنة وتماهيه معها:

أدرك، ويُدرك محمود شقير هذه الحقيقة، أنّ لا مكان بدون زمان، ولا يكملُ الوجودُ بدون الإنسان الرّكيزة الأهم لأنّه الواصل بين الرّكيزتين. وهكذا في حياته الطويلة القصيرة، الحياتيّة والفعلية، وفي حياته الإبداعية المتألقة دوما، ظلّ محمود شقير يُراوح ما بين المكان والزمان، يشدّه المكان فينجذب إليه ويؤكّد أنّه من صغره: "أثارت الطبيعة إعجابي ودهشتي بما فيها من جبال وأودية وحقول مزروعة. أمشي ساعة قبل الغروب فوق سطح بيتي وأظلّ هناك إلى أنْ تغيبَ الشمس وتبدأ العتمة بالانتشار على الجبال والسهول والبيوت والأشجار، على سور القدس القديمة وبيوتها" (تلك الأمكنة ص15/130).
وكما في كلّ كتاباته، هكذا في "تلك الأمكنة"، تظلّ للأمكنة مركزيّتها وحنانُها وشَدّها وألقُها وسحرُها، تستوقفه مشاهدُ الطبيعة الجميلة فيُطيل النّظر والتّأمل، يشعر باحتضانها له والرّفق به والأمان، حتى أنّه كان أينما حلّ يُسرع ليسجّل اسمَ البلدة والمكان والفندق ورقم الغرفة واسم الشارع والمطعم والناس الذين التقاهم، وكثيرا ما كان يتجوّل في الشوارع، ويُحدّدُ الوقت الذي استغرقه في المشي.
 وكان كثيرا ما يتآلف ويتماهى إلى ما يتجاوز حدود العشق مع المكان كما في علاقته مع مدينة القدس التي تتحوّل لتُصبح المحبوبة المُستحيلة، وهو على يقين لا لبس فيه أنّه عاشقها وهي معشوقته التي حملها ويحملها معه، يرسم لها أجملَ الصور ويستعيد معها أحلى الذكريات ويستحضر كلّ الناس الذين عرفهم وعاشرهم وصادقهم وأحبّهم فيها. لا يذكر متى كان اللقاء الأوّل معها، لكنّها كانت ولا تزال التي تُناديه كلّ فجر للذهاب إليها، فهي الآسرة التي لا يستطيع الفكاك منها. ويتحوّل المكان إلى مَعبد أحبّه ويرفض التّنازلَ عنه. فيدورُ العاشق من مكانه الواحد يُحلّقُ بحريّة عبْر الأزمنة المُتَشَظيّة المُتباعدة، ولكنّه العاشق الذي لا يُفزّع النّاس ليشهدوا على صدق حبّه، وإنّما العاشقُ الواثقُ من حبّه والمُتأكّد من أنّه الوحيد الذي يستحقّ هذه المحبوبة وستكون له وحدَه، فيكون حبّه هادئا مُنْسابا متواصلا أخّاذا مُكْتفيا بذاته لذاته "(نبيه القاسم- المنحى المتغيّر في الرواية والقصة القصيرة ص188/189 حول "ظل آخر للمدينة")، 

وكان محمود شقير في استدعائه للأمكنة واستحضارها بالعودة إليها مع مَن كان معه، وبَعْث الحياة فيها، يحرص على استحضار الزمان كذلك، فكان يُحدّدُ الوقت بالساعة واليوم والشهر فينجح في خَلْق المشهد التّام لتكامُل الصورة التي تنبض بالحياة. (المنحى المتغير في الرواية والقصة القصيرة ص236-237)
حذر محمود شقير وخوفه من الزمن:
محمود شقير الذي كان يألف المكان ويجد فيه الحاضن الآمن الدافئ وموفّر الهدوء والألفة والمحبّة والسّعادة، كان على يَقَظة وحَذر وتَشكّك وحتى خوف في تعامله مع الزمن المُتقلّب الغَدّار المُدمّر، الذي لا يعرف الشفقة، ولا يُبقي على شيء، لا مكان ولا صديق أو قريب. والزمن رغم أنّه الركيزة الثالثة مع المكان والإنسان المكوّنة للحياة بكليّتها، إلّا أنّه في حالة صدام أبدي وعداوة شرسة مع المكان والإنسان، فلا يُبقي على مكان إلّا وعمل جاهدا لتغيير مَعالمه وحتى تدميره، وإذا ما عُدنا إليه بعد غياب لا نتعرّف عليه أو لا نجد هذا المكان الذي وُلدنا فيه وكبرنا وحلمنا وأحببنا، وكما يُعادي المكان هكذا هو يُعادي الإنسان، يُلاحقه في حياته يتحكّم بجسده فيوهنه ويُضعفه، ويُبدّل حيويّتَه بالندوب الجسدية والروحية فتبدو التجاعيد والعلامات المُنبِّهة لقُرب ساعة الغروب، ولا تُسعفه كلّ المَساحيق والمَساجات لتغطية فعل الزمن. حتى بوذا عندما خرج من قصره وشاهد لأول مرة أشخاصا ظهرت عليهم أفعال الزمن من مرض وشيخوخة وفقر وموت صرخ قائلا:" أرى في كل مكان أثر التّغيير، لهذا السبب قد اغتمّ قلبي. يهرم الناس ويمرضون ويموتون، أليس هذا كافيا لهدم كلّ رغبة في الحياة؟". ومثل بوذا فزع أبو العلاء المعري من قسوة الزمن وشدّة التدمير والتغيير الذي يُحدثه فصرخ قائلا: "تُحطّمنا الأيام حتى كأنّنا زجاج   ولكن لا يُعادُ له سبكُ" 

وهذه الحقيقة القاتمة لفعل الزمن هي التي دفعت شوبنهور إلى القول" قِصَرُ الحياة الذي يُثير الأسى، هو أجملُ صفاتها". محمود شقير الذي رافقناه في تنقّلاته ورحلاته واستراحاته بين الأمكنة التي زارها أو أقام فيها، مستريحا، هادئا، فرحا، سعيدا، متفائلا، راغبا في استمراريّة الحياة، واثقا من تحقيقه لآماله وأهدافه التي يسعى إليها، نراه في مشواره مع الزمن مُكابرا مُتظاهرا باللامُبالاة والشجاعة والتفاؤل، ولكنّنا نلحظه في قرارة نفسه يُضمر خوفا شديدا ورهبة من سطوة الزمن وغدره، وكأنه يعيش في حالات التّوجّس والتوقّع والحَسرة والارتباك. يحسب الثواني والدّقائق والساعات والأشهر والسنوات، ويهمس بحذرٍ خوفَ أنْ يسمعه أحد: "نحن الآن في شهر تشرين الثاني من عام 2018، شهر الغيوم والأمطار الخفيفة وتساقط أوراق الشجر. بعد خمسة أشهر، في الخامس عشر من آذار 2019 أبلغ الثامنة والسبعين من العمر، هذا يعني أنّني قطعتُ شوْطا غير قليل في زمن الشيخوخة، وسأعطي نفسي الحقّ في تأمّل ما قاله الفيلسوف الروماني الأصل، إميل سيوران: "ليست الشيخوخة في النهاية إلّا القَصاص منكَ لأنّك عشتَ".
وبعدها يكتب وفي نفس الصفحة: "في عام 2021 سأبلغ الثمانين، وأتذكّر الشاعر زهير بن أبي سلمى الذي قال: سئمتُ تكاليف الحياة ومَنْ يعشْ   ثمانين حَوْلا لا أبا لكَ يسأم"
ويُسارع ليُبعد كل اعتقاد خاطئ عند القارئ ليقول معلّقا على كلام سيوران بالاستشهاد بقول الكاتب الأمريكي هنري ميلار الذي قال: "وأنا في الثمانين أحكم على نفسي بأنّني أكثر مَرَحا ممّا كنتُ في العشرين أو الثلاثين". وعلى كلام زهير بن أبي سلمى معلّقا "بأنّ الثمانين ليست بالكَثرة التي يُمكن أنْ تقود إلى السّأم". ويعود محمود شقير ليُنَبّه نفسَه "أغذّ الخطى نحو الثمانين.." ويؤكّد " لم تعد رحلتي في الحياة قصيرة بعد كل هذه السنين"(ص33). هذه التّنبيهات اللاواعية الخَفيّة له تدفعه ليستعيد اللحظات الحاسمة التي كان المجهول يتربّصُ به عندما غادر بيته مُكرها مع أهله في تلك الليلة الضارية من صيف عام 1948.  ويُعدد المرّات التي كان يمكن أنْ يُفارق فيها الحياة. 

"كان يُمكن أنْ أموت وأنا في العاشرة، حين صوّب طفل من أبناء أقاربي مقلاعه من باب الطيش والعبث في اتّجاهي وأنا على مسافة أربعين مترا منه (ص33) و "توقّعتُ أن أموت وأنا في الثامنة عشرة من العمر، عانيتُ من التهاب في الأمعاء فكنتُ أتأرّقُ في بعض الليالي وأتخيّل موتي وحزنَ أهلي عليّ، فتهطل دموعي بغزارة من جرّاء حزني عليّ"(ص34) و "كدتُ أموتُ غرقا وأنا في العشرين حين هممتُ بقطع سَيْل مياهُه هادرة مندفعة بضراوة" (ص34) و "تعرّضتُ لمآزق أخرى كادت تضع حدّا لحياتي، لكنني نجوتُ.  وأدّعي أنّني كابدتُ كثيرا، دخلتُ السجون وجرّبتُ المنافي وبقيتُ على قيد الحياة". (ص35) وكما فكّر بالموت المُحتَمَل فكّر بالأمراض التي ممكن أنْ تهاجمه والآلام التي تُرافقها.
هكذا يصبح الزمن الفزّاعةَ المُخيفة، والقيدَ الثقيل الذي يُكبّل حريّة وانطلاقَ وحتى تفكير محمود شقير، ومهما حاول الهربَ بالعودة إلى الماضي واستعادة الزمن الجميل الذي عاشه والأماكن المختلفة التي عرفها والناس الذين قابلهم فسرعان ما يعود للمُواجهة الحادّة مع الزمن المُلوّح له بشبح الموت المُنتظِر الذي رغم ما يُخيف الإنسانَ يظلّ هو المُنقذ له والمُحرّر من هموم الحياة وعذاباتها. فالموت هو النافذة التي يُعيد الرّبُّ عبرها الإنسانَ إلى مملكته بعد أنْ عاقبه بطرده من جنة الخلود ليُعاني شقاء الحياة الدنيا وقَيْد الزمن الثقيل لتمرّده وخروجه على تعاليمه، وأصبح الموتُ الذي حكم به الربُّ على كلّ حيّ طوقَ الحريّة والنّجاة من قيد الزمن وممارساته ضدّ الإنسان..
محمود شقير يراوغ الزمن ولا يستسلم له ويتحدّاه:

يؤكد محمود شقير على عدم استسلامه للزمن وتلميحاته، وأنّ كلّ هذه المُتربصة به لم تُعِقْه عن التفكير عن مواصلة الحياة وعن مواجهة الزمن "ها أنذا وجها لوجه مع الزمن، أتخيّله مثل ثور نَطّاح وأنا مثل مصارع للثيران، أراوغه لكي أتفادى ضرباته المؤلمة مرّة بالتّغاضي، وأخرى بالمرونة وضبط الأعصاب وتجنّب المواجهة" ويؤّكد أنّه "حين أكون مُضطرا للمُواجهة التي لا مَناص منها، فإنّني لا أجبنُ ولا أستكين"(ص35). 
ويعود ليقول إنّه بعد كل تلك السنين "أدّعي أنّني لم أعد أخشى الموت" (ص37) وكأنّي بكاتبنا يُردّد مع اسبينوزا الذي دعا إلى عدم التفكير بالموت وعدم الاكتراث به أو المبالاة بقوله: " إنّ الإنسان الحرّ لا يُفكّر في الموت إلّا أقلّ القليل، لأنّ حكمته في الحياة وليس الموت" رغم أنّ بعض الفلاسفة مثل شوبنهاور قالوا "إنّ الموت هو الموضوع الذي يُلهم الفلسفة والفلاسفة، وعدم اهتمام المفكرين بدراسة الموت فرار من مُواجهته".
لكنّ صرير الزمن يظلّ يُطارد محمود شقير ويُصبح الثيمة المركزيّة التي تسيطر على تفكيره وتحرّكاته، فيعود ليعترف بأنّه "على أبواب الثمانين لم أعد أغادر البيت إلّا للضرورات" (ص38) ويكرّر "بعد سنتين وخمسة أشهر أبلغ الثمانين، وسأكون طوال تلك الأشهر والأسابيع والأيام في انتظار مرحلة عُمْرية لم أكن أتوقّع أنني سوف أصل إليها، يبدو لي أنّني سأصل إليها من دون إشكالات، فالمسافة بيني وبينها باتت قريبة. ولن أقرّ بأنّني عجوز طاعن في السن، كم أشعر باستياء حين اسمع مذيعا يُردّد في المذياع أو على شاشة التلفزيون بأنّ عجوزا في الستين أو السبعين تعرّض لحادث دَهْس من سيّارة مسرعة أو لإطلاق نار من جنود الاحتلال! فإنْ كان ابنُ الستين عجوزا، فماذا يمكن أنْ يُقال عن رجل سيبلغ الثمانين بعد وقت لن يطول؟ "(ص40).

 وأنّ طبيعته كليّة مُطلقة، جميع البشر نهايتهم الموت فكلّ نفس ذائقة الموت، لكن الموت في الوقت نفسه فيه الإحساس الشخصيّ فكل شخص يموت وحده ولا أحد يموت نيابة عن غيره. وكتب "وها أنذا أصل إلى نهاية الشوط، أو إلى ما هو قريب منه" قد أموت بعد أشهر معدودات، أو بعد سنتين أو ثلاث سنوات أو بعد عشر سنوات على أبعد تقدير." سيحزن أهل وأقارب ورفاق وأصدقاء لموتي، ولن يكترث لموتي آخرون، فهذه هي سنّة الحياة، وستكون لي جنازة تُحدّد حجمَها الظروف.
في زمن الكورونا تضاءل حجم الجنائز انصياعا لضرورات التّباعد الجسدي بالعزاء عبر الهاتف وعلى مواقع التواصل"(ص227) "سيشارك في جنازتي رفاق ورفيقات من خارج القدس، وقد لا يتمكّنون من المُشاركة. وسأدفنُ في مقبرة جبل المكبر إلى جوار قبر أبي غير بعيد عن قبرَي أمي وشقيقتي أمينة. فالقبر جاهز منذ سنوات ولن ينبت عشبٌ في الربيع حول قبري لأنّ تربة المقبرة للأسف الشديد جيريّة بيضاء. وحين أموت قد يؤبّنني أحدُ قادة الحزب لأنّني كنت عضوا في قيادة الحزب الشيوعي الأردني ثم الفلسطيني لأكثر من عشرين سنة."(ص228). وكتب "وأنا على أبواب الثمانين لا يستغربنّ أحد كيف يلفت الموتُ انتباهي فلا أتغاضى عنه ولا أتناساه. فمنذ طفولتي ارتسمَتْ في ذهني مشاهدٌ للموت لا تُنسى."(ص230).
تزايد التوتّر والاضطراب مع اقتراب السّاعة المُنتظرَة:
نتابع ما اعترى كاتبنا محمود شقير وهو يعيش الأيام القليلة المُتناقصة التي تُبعده عن اليوم الذي يبلغ فيه الثمانين عاما. "ها أنذا أقترب من الموعد المنتظر. أنا الآن على بُعد شهر ونيف من الثمانين. (ص233) " أنا الآن على بُعد عشرة أيام من الثمانين. أطلقتُ لحيتي 
لا خيل عندك تُهديها ولا مال  فليُسعف النّطقُ إنْ لم تُسعف الحالُ
وأخيرا كانت الخاتمة السعيدة:
وعَبَر محمود شقير عيد ميلاده الثمانين وتَنفّس الصّعداء بعد تخلّصه من كابوس الموت القاتل وثقل طوق الزمن القابض وكتب: "شكرا لها من الأعماق تلك المغوية المعذِّبة، الرقيقة القاسية، المُفرحة المُحزنة: الحياة. ثم كتب: هي، أي الحياة، رحلة مفتوحة على احتمالات شتّى، فيها الفرح وفيها الحزن، فيها الألم وفيها اللذة، لكنّها في نهاية المطاف محكومة بالخسارة ما دامت تنتهي على الصّعيد الشخصي بالموت.  لكنّه يؤكد على "أنّ عزاءنا نحن البشر الفانين يكمن في سَعينا، كلّ قدر طاقته، إلى إغناء مسيرة البشريّة نحو الرّقيّ والأمن والأمان والطمأنينة والازدهار والسلام.