يوم السبت الموافق 17 كانون 1/ ديسمبر الحالي صباحًا فتحت صناديق الاقتراع في تونس الخضراء لانتخاب برلمان جديد، هو الأول في زمن الرئيس الحالي قيس سعيد، الذي تولى الحكم في 23 تشرين 1/ أكتوبر 2019، وبعد التحولات الدراماتيكية التي أجراها في 25 تموز / يوليو 2021، ومنها تجميد أعمال البرلمان، قبل أن يحله نتاج فرضية تعطيل عمل المؤسسات. الأمر الذي تطلب من حاكم قصر قرطاج تنشيط الحياة البرلمانية. لا سيما وأنه نادى وينادي بتوسيع الحياة الديمقراطية، وتجاوز حالة التوتر والتحريض والتجاذبات في الشارع التونسي، التي قادتها المعارضة بمختلف مشتقاتها وتلاوينها.


وفي خطوة استباقية لاجراء الانتخابات، أقدم قيس سعيد على خطوة تمهيدية لذلك، تمثلت في إجراء استفتاء على دستور جديد، تمت في 25 تموز / يوليو 2022 الماضي، والذي تضمن تقييدًا لصلاحيات النواب، وأيضًا تغييراً في آليات الانتخابات، من أهمها، الزام النواب بالترشح الفردي، ورفض القوائم الحزبية. ووفق العديد من المراقبين والمتابعين للمشهد التونسي، كان ذلك تقييدًا للعملية الديمقراطية، وتكبيلاً للأحزاب، ومحاولة لعزل بعض القوى، وفي ذات الوقت افساح المجال أمام الكفاءات الشبابية الجديدة للانخراط في المشهد السياسي، وتقليص التزوير في الانتخابات، وتوسيع دائرة الشفافية. لكن الرسائل بجوانبها المختلفة لم تصل للناخب التونسي، مما سمح للمعارضة شن هجوم تحريضي واسع على العملية الانتخابية برمتها، التي سلطت الضوء على اختزال العملية الديمقراطية، وابعادها السلبية. فضلاً عن ما حمله الدستور الجديد من قيود غير مرحب بها في الشارع.


كانت نتيجة الانتخابات متواضعة جدًا، وفق تصريح فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات في مؤتمره الصحفي يوم الاثنين الماضي (19/12) الحالي، حيث لم تزد نسبة التصويت عن 11,22%، أي أن عدد الناخبين بلغ مليونًا و25 ألف ناخب، من أصل تسعة ملايين و136 ألف ناخب. وهي أدنى نسبة انتخابات منذ ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، قياسًا بالانتخابات التي جرت في 2011 و2014 و2019.
وأكد بوعسكر أن 34% من الناخبين من النساء، و66% من الرجال، كما أن معظم الناخبين من الكهول والمسنين. وبالتالي كان واضحًا عزوف الشباب عن صناديق الاقتراع. أضف إلى أن هناك تدني في نسبة النساء المشاركات في الانتخابات، فمن أصل 1055 مرشحًا، كان 120 امرأة فقط، بنسبة تقل عن ال12%. وهذا ليس حال المرأة التونسية، التي لعبت تاريخيًا دورًا هاماً في حماية العملية الديمقراطية. وبالتالي عدم اقبال النساء على المشاركة الفاعلة ناجم عن تحفظات لديهن على جملة القوانين الجديدة، التي تضمنها الدستور.


بالنتيجة الأسباب التي أسهمت في احجام الناخبين عن التصويت، لا يعود لتبنيها خيار المعارضة، وانما لاسباب أخرى، منها أولاً التحفظ على اليات العملية الديمقراطية؛ ثانياً الحؤول دون ترشح القوائم الحزبية، مما دفع معظم الأحزاب عن النكوص في المشاركة، بما في ذلك الحزب الدستوري الحر، بزعامة عبير موسي؛ ثالثًا الغالبية العظمى من المرشحين شخصيات غير معروفة، ولا رصيد لها في الشارع؛ رابعًا رفضًا لحالة الاستقطاب والتجاذب الجارية بين قرطاج والمعارضة؛ خامسًا ارتفاع نسبة الغلاء على السلع الأساسية وخاصة على مادتي القمح والمحروقات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، مما فاقم من الازمة الاقتصادية الحادة، التي نجم عنها ارتفاع نسبة التضخم تقريباً إلى 10%.


ورغم اصدار جبهة الخلاص الوطني، التي تضم حركة النهضة بيانًا في أعقاب صدور نتائج نسبة التصويت، طالبت فيه الرئيس سعيد بالتنحي، وهي المرة الأولى التي تتجرأ فيها قوى المعارضة لطرح هذا الطلب، بيد أنه لا يوجد ما يشرع طلبها، ولا يمكن إجبار الرئيس على الاستقالة، أو حتى الإقرار بفشل الانتخابات. ولكن من الواضح أن المشهد التونسي يعاني من عدم الاستقرار، وغياب الوضوح، ووجود ضبابية عالية تحول دون استشراف المستقبل بالشاكلة المنطقية. لا سيما وان اتحاد الشغل، أهم قوة نقابية وسياسية ابتعدت نسبياً عن دائرة الموالاة، أو التكامل مع الحكم، بسبب تحفظاتها المختلفة على الآلية التي ينتهجها قصر قرطاج.
مع ذلك هناك دورة ثانية للانتخابات في اذار/ مارس القادم، قد تحمل آفاقًا أرحب وأكثر وضوحًا، مما شهدته الجولة الأولى من العملية الديمقراطية.