لم يعد الحديث عن الحرب العالمية الثالثة مجرد تكهنات، أو أنه حديث تلويح أكثر منه إمكانية باتت أقرب للحدوث مما نتوقع، والغريب بالأمر أن ذاكرة البشرية قصيرة، وكأن شعوب العالم، وتحديدًا شعوب أوروبا قد نسيت هول حربين عالميتين، فهم اليوم شرقًا وغربًا يتدحرجون بسرعة نحو حرب كونية. ومن الواضح أنه لم يتم العمل بما يكفي لتعزيز وعي عام ضد الحرب، والتثقيف كم ستكون الحرب القادمة بشعة، وأنها ستعيد البشرية الى ما قبل عصر الكهرباء وأن البيئة سيتم تدميرها ربما لقرن أو قرنين قادمين.
علينا أن نتخيل أن كل ما انجزته البشرية من حضارة وتطور سيتم الاجهاز عليه خلال ساعات إذا تحولت الحرب القادمة إلى حرب نووية، والمشكلة أن إعادة بناء الحضارة من جديد قد يستغرق وقتاً طويلاً، وربما لن نعود إلى ما نحن عليه اليوم. وعلينا أن نتخيل أن الحضارة المادية لن تكون وحدها ما سيدمر وإنما كل منظومة القيم، منظومة سيادة القانون.
على البشرية أن تتوحد. لمنع الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة، وإلا يصفق البعض للحرب مهما كانت مبرراتها، لا شيء يبرر الانجرار إلى حرب تدمر الكرة الأرضية. وفي الدول التي تدعي أنها ديمقراطية على الشعوب أن تدرك إن ذهب صوتها للقوى الشعبوية فإنها ستكون شريكة في دفع البشرية نحو الحرب، فالعودة للتعصب القومي والديني، هو بذرة شيطانية ستأخذ البشرية لتدمير نفسها بنفسها.
الدعوة إلى الوحدة في وجه الحرب، ستكون دعوة رومانسية إذا لم تقترن بإدارة قوية وشاملة تعيد الاعتبار للقانون الدولي، تعيد بناء النظام الدولي بعيدًا عن منطق الهيمنة، نظام يستند الى العدل، والتوزيع العادل للثروة، فالكرة الأرضية فيها ويمكن ان تنتج خيرات تكفي الجميع. ولعل فكرة إعادة بناء هيئة الأمم المتحدة هي أمر ضروري ولكن ليس بمنطق استقواء طرف على آخر، بل إصلاحها لتكون أكثر تمثيلاً للشعوب العالم، وأن تكون أكثر حزمًا فيما يتعلق باحترام ميثاقها والقانون الدولي، والأهم من كل ذلك إصلاح يطوي إلى الأبد سياسة ازدواجية المعايير.
إن الخطأ الذي وقعت فيه البشرية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، أن المنتصرين صاغوا نظامًا دولياً على مقاسهم، نظامًا يعزز هيمنتهم ولا يعزز احترام القانون الدولي، لذلك فشلت تجربة عصبة الأمم، التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى، فشلاً ذريعًا، ففي أقل من عقدين اندلعت حرب عالمية ثانية. واليوم تكاد هيئة الأمم المتحدة تصل إلى المصير نفسه.
ولعل القضية الفلسطينية أكبر مثال على بؤس النظام الدولي الذي انتجته الحربان العالميتان، لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظًا، فالمنتصرون بالحرب الأولى جاءوا بوعد بلفور عام 1917, وعصبة الأمم المنبثقة عن هذا النظام جاءت بصك الانتداب الذي جعل الهدف من الانتداب البريطاني لفلسطين هو تنفيذ وعد بلفور.
وبعد الحرب العالمية الثانية مثل قرار تقسيم فلسطين عام 1947 أول مؤشر على غياب العدالة في عمل الامم المتحدة، وليس هذا وحسب بل سمحت هذه المنظمة بعد عامين من تأسيسها بحصول أكبر عملية تطهير عرقي قامت بها دولة نشأت بموجب قرار التقسيم الذي أصدرته هي. لقد تخلى المجتمع الدولي مباشرة وعلى الفور عن ميثاق الأمم المتحدة عندما لم يتم تنفيذ القرار رقم 194، الذي يدعو إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
ذاكرة الشعب الفلسطيني، وشعوب كثيرة اخرى بخصوص النظام الدولي الذي نشأ بعد حربين عالميتين هي ذاكرة مأساوية. وبالرغم مما لحق بالشعب الفلسطيني من ظلم فانه يقف ضد انزلاق البشرية نحو حرب عالمية ثالثة تدمر كل شيء، قد يقول البعض ليس لدينا ما نخسره فلتندلع الحرب وتخلط الأوراق من جديد، هذا التفكير هو تعبير عن يأس، تعبير عن شعور عميق بالظلم لكن حتى أولئك الذين يرددون مثل هذا الرأي لا يريدون ولا يرغبون بحروب تدمر الحضارة.
إن شعباً مثل الشعب الفلسطيني لا يمكن إلا أن تكون له نظرة إيجابية لأنه يبحث عن العدالة التي تقود إلى سلام أكثر رسوخًا، ومن يطالب بالعدالة هو بالضرورة منحاز للحياة وللسلام وليس للحروب. غالبية الشعوب الساحقة هي مثل الشعب الفلسطيني، قلة هي من تأخذ البشرية للحرب، لكنها قلة متنفذة شرهة في الدول الكبرى تبحث عن الهيمنة،.. فهل ستسمح لهم البشرية بأن يأخذوها لحرب؟
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها