تقرير: سامي أبو سالم
لا تنتهي مرحلة تعذيب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بانتهاء مرحلة التحقيق وإصدار الحكم بعدد السنوات التي سيقضونها، بل تمتد بأشكال وأساليب متعددة، ومن أبرزها "العزل الانفرادي".
ويُقصد بالعزل احتجاز الأسير في زنزانة صغيرة وحيدا، أو مع أسير آخر، بعيدا عن رفاق السجن وعن أي شيء يربطه بالعالم الخارجي.
الأسير المحرر جهاد غبن، من مخيم جباليا، شمال غزة، يقول إن العزل الانفرادي ما هو إلا تعذيب صامت طويل المدى يتعرض فيه الأسير لآلام بدنية ونفسية وسط صمت مطبق.
ويضيف غبن (52 عاما) الذي قضى 24 عاما في سجون الاحتلال إنه تعرض للعزل خمس مرات لمدة 7 شهور في سجون مختلفة مثل سجن بئر السبع وعسقلان ونفحة وهداريم.
وللعزل عدة أوجه ودرجات، لكن كلها في إطار الضغط الذي يستهدف الأسير. ففي إحدى المرات تم عزل غبن في زنزانة تسمى "تسينوك" طولها 110 سم وعرض 210 بدون حمام ولا ماء ولا شبابيك واضاءة خافتة وبلا أي متنفس مع سرير حديدي. ويسمح له باستراحة وهو مقيد اليدين.
قال غبن: "لا تستطيع ان تهرش في أنفك أو رأسك لأن اليدين مقيدتين إلى الخلف فيما يسمونه إستراحة".
وكشف أن قضاء الحاجة مسموح مرة واحدة في اليوم يفتح السجان الباب في الوقت الذي يحدده هو، تمشي للحمام مقيد اليدين تحمل قنينة ماء الشرب لتعبئتها وقنينة البول لتفريغها استعدادا لتعبئتها مرة أخرى في الزنزانة.
وربما يقضي السجين في "تسينوك" (وتعني زنزانة صغيرة) أسابيع أو أشهر أو أكثر، بعدها ينتقل لـ"الأفرَداة" (وتعني العزل)؛ وهي عبارة عن زنزانة بمساحة 120 سم طولا و280 عرضا بسريرين وأحيانا يشارك الأسير اثنان أو ثلاثة.
وعادة تغلق "الأفرداة" 24 ساعة بباب بفتحة 10 سم مربع، وأخرى وسط الباب بطول 30 سم وعرض 10 سم لادخال الطعام ولتقييد أو فك قيود الأسير عند الخروج لاستراحة، وبها مِرش ماء للاستحمام وبلاطة مرحاض.
وربما يتم توفير كتب أو جهاز مذياع أو تلفزيون صغير بقنوات يتحكمون هم فيها، وربما لا، قضى غبن في "التسينوك" 3 أسابيع ثم تم نقله إلى "الأفرداة".
لا يخلو الأمر من ممارسات سادية من السجانين، فأحيانا يطرق السجان باب الزنزانة فجرا يطلب من السجين الخروج للحمام وعندما يرى أن السجين جاهز لقضاء الحاجة يغلق باب الزنزانة مرة ثانية ويقول "ليس الآن، دعها لوقت آخر"، لكن لو قال الأسير غير جاهز فيكون قد فقد الفرصة اليومية الوحيدة.
"كنت أتعمد أن أخفف من الطعام الشحيح أصلا ومن الشراب كي أتجنب استخدام الحمام قدر المستطاع، كان الحمام أداة إذلال".
ومن متاعب العزل، قال غبن، "إن الأسير ينعزل عن العالم تماما، فلا يعرف ما يدور داخل أو خارج السجن ولا يسمع أخبار ويمنع من ساعة اليد كأنه يعيش في غابة لوحده ولا يعرف الوقت ليلا أم نهارا".
"لا تسمع ولا ترى أحد سوى السجان، ربما ترى بعض الحشرات فقط... وحاسة السمع لا تحتاج لها إلا لسماع السجان الذي يتحكم في أوقات قضاء الحاجة"، قال غبن في لقائه مع مراسل وفا.
وأضاف: "أن من معضلات العزل هو قلة النظافة بسبب عدم توفر أدوات التنظيف فيضطر السجين لشرائها من حسابه الخاص من مصروف شخصي تحوله وزارة الأسرى في الحكومة الفلسطينية أو ذوي المعتقل".
ويتعرض الأسير لأمراض جلدية يساعد عليها عدم دخول الشمس على الإطلاق الأمر الذي يزيد من نسبة الرطوبة واحتمال الإصابة بالفطريات، أو يتعرض لخلل في الجهاز الهضمي بسبب سوء الطعام.
وقال غبن: "يعيش الأسير في العزل وسط ملايين الأسئلة التي ليس لها إجابات، عن الأهل ورفاق السجن والعالم ويبحث عن أي معلومة من أي نوع، ويشطح كثيرا في "أحلام يقظة" ربما تصل لحد مَرضي".
وكان الأسير ضرار أبو سيسي، المعتقل منذ 2011، قد أفاد لأحد المحامين بأنه بدأ يشعر "بصعوبة في النطق واستذكار اللغة جراء العزلة الكاملة التي يعيش فيها، وانقطاعه عن التواصل مع العالم الخارجي" وفقا لمؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
وقال ثائر شريتح، الناطق الإعلامي لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، إن سياسة العزل الإسرائيلي هي جزء لا يتجزأ من رحلة التعذيب والمعاناة التي يقضيها الأسير الفلسطيني منذ دخوله حتى إطلاق سراحه.
وأشار شريتح، وهو أسير سابق، أن قرار العزل يأتي بقرار من الأجهزة "الأمنية" أو إدارة السجن وغالبا بتنسيق بينهما.
وكشف الناطق بلسان هيئة الأسرى والمحررين أن 29 أسيرا يقبعون في هذه الأيام في زنازين العزل من أصل 4550 أسيرا، على رأسهم الستة أسرى أصحاب "نفق جلبوع" الذين استطاعوا انتزاع حريتهم من سجن جلبوع العام الماضي.
ويقبع الأسرى الستة زكريا الزبيدي ويعقوب قادري وأيهم كممجي ومحمد العارضة ومحمود العارضة ومناضل نفيعات في العزل الانفرادي منذ اعاد الاحتلال اعتقالهم في أيلول/ سبتمبر 2021.
وخلال تقديم أسرى "نفق جلبوع" للمحكمة في مدينة الناصرة، قال زكريا الزبيدي للصحفيين ولذويه إنه في العزل لا يرى النور وأن الطعام سئ للغاية.
ويشير جهاد غبن أن العزل يأتي كعقاب فردي أو جماعي عقابا لمحاولة هروب أو مشاركة في إضراب أو المطالبة بحقوق أو مجرد ممارسات سادية استمرارا للتعذيب أو تحت أي حجة واهية.
وخضع غبن للعزل بسبب محاولته الهروب من سجن عسقلان بعد أن نحت فتحة في سقف السجن، وبسبب مشاركته في إحتجاجات وإضراب عن الطعام.
ويحرم الأسير من الكثير من "الامتيازات" التي يتعطش لها الأسرى مثل إدخال ملابس من الأهل أو منع زياراتهم له والكنتينا (بقالة السجن).
ومن أهداف سياسة العزل هو إذلال الأسير وتصفيته جسدياً ونفسياً؛ كما حدث مع المعتقل إبراهيم الراعي في 11/4/1988، الذي تمت تصفيته بعد عزله لمدة تسعة أشهر متواصلة، وفقا لتقرير البنك الوطني للمعلومات (مؤسسة فلسطينية رسمية).
وفقا لجهاد غبن: "يأتي العزل كجزء من عقاب شبه جماعي يتبع ما يُعرف بـ"القَمْعة" وهو هجوم كاسح من السجانين ضد الأسرى يتخلله ضرب بالهراوات وغاز مسيل للدموع وقنابل صوتية داخل غرفهم".
ومن الممكن أن يكون بهدف كسر معنويات المعتقلين من أجهزة الاحتلال، التي تسعى دائماً إلى استخدام العزل لقطع قنوات التواصل بين قيادة الحركة الأسيرة وباقي الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، كما تقول مؤسسة الضمير في تقرير لها على صفحتها الالكترونية.
وقال جهاد غبن إن العزل في "الأفرداة" ربما يكون للسجين بمفرده أو بصحبة شخص آخر في الزنزانة، وتتراوح فترة العزل وفق رؤية أجهزة الاحتلال وإدارة المعتقل.
وحول قضاء الوقت في العزل، قال غبن إن القراءة هي الملاذ الأول والأخير للحفاظ على القدرات الذهنية هذا في حال توفر الكتب.
ومن أساليب الضغط على الأسير تعمد سلطات الاحتلال في السجون لنقل السجين من سجن إلى آخر أو نقل داخلي من قسم إلى أخر أو من زنزانة إلى أخرى.
وقال غبن: "التنقل مؤلم، فإذا كان من سجن لسجن تكون مقيدا والمسافات طويلة داخل ما أشبه بقفص صغير بدون حمّام... بعد أن تألف المكان يتعمدون نقلك كجزء من الضغط النفسي والبدني.".
وأشار ثائر شريتح أنه ليس هناك فترات ثابتة بالنسبة للعزل فربما تتمتد أسابيع أو شهور أو سنوات وهذا يشكل خطرا كبيرا على الحالة النفسية والبدنية للأسير. "هناك أسرى قضوا في العزل ما مجموعه 10 سنوات".
"وأيضا هناك بعض الأسرى يتم عزلهم إضافة لدفع غرامات مالي. وأشار إلى أن من أبرز من تعرضوا للعزل هم مروان البرغوثي ونائل البرغوثي وأحمد سعدات ومحمود عيسى.
ومن الناحية القانونية، قال الحقوقي جميل سرحان، مدير الهيئة المستقلة لحقوق الانسان بغزة، إن العزل يفترض أن يأتي بشكل قانوني وفي حالات استثنائية جدا عندما يشكل خطرا على نفسه أو الآخرين ويحصل فيه الأسير على كل حقوقه عدا التنقل، لكن ما يجري مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال لا علاقة به بالقانون وما هو إلا نوع من أنواع التعذيب.
ويعتبر المناضل الياباني كوزو أكاموتو أكثر من قضى وقتا في العزل الانفرادي، من عام 1972 إلى عام 1985 وقت تحريره في صفقة التبادل الشهيرة.
ووفق البنك الوطني للمعلومات فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تشرّع انتهاكاتها لحقوق الأسير؛ فقانون مصلحة سجون الاحتلال لعام 1971 "ينص على السماح بعزل الأسير بذرائع أمنية"؛ بحيث أصبح العزل وسيلة مشروعة بيد مدير السجن وضباطه.
ويعتبر العزل، وفقا لمؤسسة الضمير، ضرباً من ضروب التعذيب النفسي المحظورة بموجب المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب المبرمة عام 1984، ومن أساليب المعاملة اللاإنسانية والحاطة بالكرامة المحظورة بمقتضى المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والحقوق السياسية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها