نشر فراس حج محمد مقالاً بعنوان "المسكوت عنه في الرواية الفلسطينية الرسمية" يوم الخميس الموافق 31 اذار/مارس الماضي جانب فيه الصواب، ووقع في خطايا عديدة، حيث بدا واضحًا للقارئ المختص والعادي وجود فجوة كبيرة بين ما أراد الكاتب الوصول له والمدخل الذي ولجه لتحقيق غايته. وهذا نتج عن استخدام مفاهيم ومصطلحات ومقولات غير دقيقة في محاكاة التاريخ، لا بل تجنى على التاريخ وسرديته للأحداث المختلفة، وإن أصاب في إعادة التأكيد "على أن التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء." مع أنه لم يرفق تلك المقولة القديمة الجديدة، بأن التاريخ لا يستقيم ولا يستجيب ولا يخضع لمنطق الأقوياء دائمًا طالما هناك قوى ذات صلة بهذه القضية أو ذلك الحدث، وعلى سبيل المثال فإن تاريخ القضية الفلسطينية لم يخضع لمنطق الأعداء الأقوياء، ولم يستسلم لمنطق العملاء والمأجورين وتجار القضية. وحتى مع اختيار القيادة الفلسطينية خيار السلام، لم تقبل للحظة واحدة التنازل عن الرواية التاريخية للشعب العربي الفلسطيني وحقوقه التاريخية في ترابه الوطني، ولم تتخلَ عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين تحت كل الاعتبارات.

إذا القضايا والأحداث التي تتعلق بمصير ومستقبل الشعوب، وحيث يوجد فيها قوى سياسية مؤمنة بعدالة قضيتها الوطنية أو القومية، فإن قضيتها وتاريخها لا تمحوه بساطير المستعمرين، ولا جبروت الأعداء، وتهافت واستسلام المستسلمين، وبالتالي التاريخ ليس دائما طوع بنان الأقوياء، ولا يخضع لمشيئة أباطرة المال، ودبابات وقنابل الأميركان ولا الإسرائيليين الصهاينة، ولا ديماغوجيا الآلة الإعلامية مهما كانت قوتها، وقدرتها على غسل العقول.

ومن أخطاء الكاتب فراس غير الفصل التعسفي بين المقدمات والنتائج، وقوعه في ظلم السردية التاريخية، فيقول في فقرته الثانية من مقاله "في تقديري الشخصي أخطر تلك السرديات هي السردية التاريخية للصراع على الأرض." ويتابع بعيدًا في ظلم التاريخ قائلا "التاريخ غير حقيقي، وغير شامل، وفيه جوانب معتمة كثيرة، والسردية التاريخية بشكل عام، هي سردية مخاتلة وفيها الكثير من المراوغة والخديعة والخذلان،" ويصل لربطها بالقضية الفلسطينية، عندما يضيف "ويزداد هذا الأمر وضوحًا في الحالة الفلسطينية، نظرًا لتاريخ فلسطين الممتد والمتعمق في الزمن،" ويتابع "الجغرافيا ثابتة والتاريخ سائل ومتحرك." هنا مجرد القول "إن أخطر السرديات، هي السردية التاريخية" واعتبارها "سردية مخاتلة" وقع في المحظور وخطيئة قراءة السرديات التاريخية بغض النظر عن المنهجية التي يستخدمها هذا الباحث أو ذاك. كان يمكن له أن يكون موقفه نسبياً صحيحًا، لو أن القيادات الفلسطينية والعربية وحتى الأممية المناصرة تخلت وأسقطت الرواية الفلسطينية، وتبنت "الرواية الصهيونية". أضف إلى أنه أخطأ في التعميم بشأن السرديات التاريخية، وهذا لا يجوز من حيث المبدأ. أما وجود جوانب معتمة وأخرى مضيئة فهذا أمر آخر.

وللأسف لم يميز حج محمد بين المؤامرة على الشعب الفلسطيني من بعض ممن هم محسوبون في عداد الأشقاء مع الأعداء وبين تاريخ الشعب، والدفاع المستميت من قبل القيادات الوطنية المتعاقبة عنه، وعدم التفريط به، أو التنازل عن أي نقطة أو عن حق الفلسطينيين التاريخي بوطنهم الأم، فهذه لم تحدث، وهناك مجددا فرق شاسع بين المساومة وبين التنازل عن التاريخ. وعلى سبيل المثال سوريا لم ولن تتنازل عن لواء الإسكندرونة في تركيا، ولا عن الجولان المحتلة من قبل دولة الاستعمار الإسرائيلية، ولا تنازلت دولة الإمارات العربية المتحدة عن الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى). لكن القيادات السورية والإماراتية وغيرها تعاملت من وقائع واشتراطات اللحظة السياسية، وهذا غير ذاك، ولا يمكن اعتباره تنازلاً أو تفريطًا، ولا يجوز اتهام التاريخ بما ليس فيه.

وخلط الكاتب فراس بين السياسة والتاريخ، عندما قال "في السياسة لا منطق إلا منطق القوة، فالتاريخ ليس له اعتبار عند السياسيين." وهذا خطأ فادح، ولا يقبل به أي سياسي. لأن السياسة بلا تاريخ لا تكون سياسة، وإنما مزحة في التاريخ، أو لحظة تعكس تخلف وفقر حال السياسيين هنا أو هناك، الذين يفصلون السياسة عن التاريخ. ويتابع عملية الخلط فيقول "فأميركا تحولت إلى مستعمرة "الرجل الأبيض" رغمًا عن قوة التاريخ وعشرات الملايين من الهنود الحمر، وإسبانيا تأسلمت ثمانية قرون ثم عادت إلى الصبغة الغربية (المسيحية)، وكذلك الحال في فلسطين، كانت بيزنطية مسيحية بعد أن كانت وثنية وكنعانية، ثم غدت عربية إسلامية، ثم ها هي اليوم ذات صبغة "عبرانية." لم تكن فلسطين يومًا "عبرانية" ولن تكون يومًا "عبرانية" حتى مع توقيع اتفاقات سلام. لأن الوطنيين الفلسطينيين والقوميين العرب من مختلف المشارب الفكرية والسياسية لم يتخلوا عن روايتهم، وعن موقع فلسطين التاريخي العربي.

هنا نلاحظ إسقاطات اعتباطية، ولم يفصل بين الحملات الاستعمارية التاريخية وبين هوية وتاريخ الشعب العربي الفلسطيني، ففلسطين تعرضت لـ48 غزوا على مدار الحقب التاريخية، لكن كل تلك الغزوات لم تلغ هويتها وموقعها وانتماءها لكنعانيتها وهويتها الفلسطينية العربية. وحتى أميركا التي قتلت ما يزيد على المئة مليون هندي أحمر، لم تسقط تاريخ الهنود الحمر باعتبارهم السكان الأصلانيين. وإسبانيا تاريخيًا جزء لا يتجزأ من الغرب المسيحي، ووجود الإسلام فيها لثمانية قرون لم يلغ تاريخها وهويتها، ولم يُقَل يومًا إنها غير إسبانية، ولا يمكن القول عن اندونيسيا الإسلامية أو تركيا العثمانية الإسلامية أو غيرها إلا بانتسابها لهويتها القومية. 

وحتى لا أطيل مقدمات فراس حج محمد لا تمت بصلة للنتائج التي أراد بلوغها، وعنوانها تمسك الفلسطيني بروايته، وكتابة تاريخه كما هو دون مواربة أو تجميل صورة بعض من تورط بالخيانة من العرب لبيع فلسطين والتنازل عنها للإسرائيليين، فحقائق التاريخ أعمق من كل أدعياء كتبة التاريخ المهادنين والمساومين والمتسلقين على فلسطين والتاريخ وهناك قضايا قفزت عنها لأن لا مجال في هذه العجالة لاستيفائها حقها، لأن الأمر يحتاج لبحث أوسع وأعمق.

 

المصدر: الحياة الجديدة