هكذا درجت العادة ألا يستقيم لهم أمر إلا أن يبعثروا الأوراق، ويخلطوا الأمور على غيرهم، وأن يحدثوا الفوضى، ولا يتركون لخصومهم الفرصة ليلتقطوا الأنفاس، ويتحضروا لمواجهة الأخطار المحدقة بهم، ثم يحاولون التفريق بين خصومهم، ويتقربون لطرف، ويعادون آخر، ويحاولون الترويج لأفكار، وعناصر تحريض وعداوات داخل المعسكر المضاد، وأن يمدوا أيديهم باتجاهات مختلفة حتى إذا وجدوا منفذًا يدخلون منه دخلوا، وهي ثقافة لديهم ليست وليدة مرحلة بعينها، بل نتاج تراكم تاريخي موغل في القدم، ومنتج بالنسبة لهم، ويمكن أن يحقق لهم نجاحات تمكنهم من البقاء في المقدمة، أو هكذا يعتقدون، وإذا ما رأوا طرفًا تمكن من الهيمنة سارعوا إليه بالتودد والتقرب ليكون لهم سندًا في مواجهة من يظنونه عدوًا، وحتى لو اشتعلت أزمة فإنهم يسارعون ليعرضوا خدماتهم بوصفهم يبحثون عن التهدئة والسلام والتسامح في ربوع الأرض.
عندما نشبت الأزمة الأوكران، وتبينت صور المعركة، وعلا صوت المدافع، وهدير الطائرات سارع نفتالي بينيت إلى دس أنفه بوصفه زعيماً عالميًا مقربًا من طرفي النزاع في موسكو وكييف، وتوجه رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى العاصمة الروسية موسكو، والتقى الرئيس فلاديمير بوتين لمناقشة الوضع المتأزم، وكان أبلغ الأميركيين نيته القيام بجولة تشمل روسيا وألمانيا للقيام بما يشبه الوساطة على طريقة أسلافه في الحرب العالمية الثانية وهم يفاضلون بين لندن ونيويورك، ولم يكن الأميركيون متحمسين لهذا الأمر، غير أنهم تجاوزوه، فهي ليست المرة الأولى التي تمارس فيها إسرائيل أدوارًا سيئة، وصادمة وتحرج الراعي الأميركي بوصفها الفتى المدلل، والمرفوع عنه القلم، والذي لا يحاسب بل هو كابن المسؤول الرفيع، أو رجل الأعمال الذي ارتكب هفوة، فلا يحاسب، بل تتحرك الوساطات، وترن الهواتف لتأمين عدم محاسبته، ولا حتى إدانته لأنه غير الناس ولا يشبه أحدا على هذا الكوكب، والطريف أن الرئيس الأوكراني لم يرد على اتصالات بينيت الذي كان يحاول أن يصنع هالة إعلامية حول تحركاته، ويضع إسرائيل في قائمة الدول المعنية بحل الأزمة، لأنه لا يريد الابتعاد عن الحلفاء التقليديين، ولا يريد أيضاً إغضاب روسيا المتحفزة.
ليس مستبعدًا أن هناك من يفكر في إسرائيل بالتحولات الكبرى، والمخاطر الناتجة من الصراعات المثيرة، وغير التقليدية التي أصبح حلفاؤها جزءًا من اللعبة فيها، ويرى هذا البعض أهمية عدم خسارة طرف من الأطراف الفاعلة، وحساب العواقب الناجمة عن سوء تقدير القيادات السياسية للموقف الذي قد يصب في غير صالح كيان الاحتلال، وهنا تكمن أهمية دراسة الموقف، والتواصل مع طرفي الأزمة، وبدلاً من الدخول كحليف لأحد المتخاصمين، فلا ضير من لعب دور الوسيط الذي يجيد لعبة الدهاء والمكر ومشاغلة الأطراف الدولية الكبرى لكسب علاقات ومصالح مستقبلية كرصيد استراتيجي في لعبة البقاء والديمومة والاستمرار في احتلال فلسطين، والحصول على دعم دولي من أطراف لم يعد مهما لديها احترام إنسانية الإنسان، وإعادة الحق لأهله.
من الواضح أن الإرادة الروسية تتجه إلى حسم ملف أوكرانيا لجهة منعها من التوجه إلى عضوية الناتو، وتدمير بنيتها التحتية، ودعم حلفائها في الشرق وفي القرم وفي مولدوفيا المجاورة كما فعلت مع جورجيا وإقليم أبخازيا، وكذلك قيامها بدعم نظامي الحكم في كازاخستان وبيلاروسيا ومع ذلك فهذه الحسابات ليست نهائية لأن الإسرائيليين يراقبون أين تتجه الرياح (ليفردوا أجنحتهم) كما يقال.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها