يامن نوباني
منذ أغلقوا على جسده أبواب السجن في 21 أيلول 1996، وهو يفتح الكتب. العتمة تقابلها القراءة، ضيق الزنزانة في مواجهة رحابة العقل. إنه الأسير محمود العارضة.
العارضة (46 عاماً) من بلدة عرابة جنوب جنين، يقبع اليوم في مركز تحقيق "الجلمة" مع ثلاثة أسرى، هم: زكريا الزبيدي، ومحمد العارضة، ويعقوب قادري، والذين اعتقلهم الاحتلال مجدداً بعد أن انتزعوا حريتهم من سجن "جلبوع" بتاريخ السادس من أيلول لخمسة أيام.
لم تمنع ندرة الكتب ومصادرتها ومنع إدخالها في الكثير من السنوات، من أن يصبح العارضة مثقفاً يبني مكتبته الشخصية في عقله، يمشي بتلك المكتبة وذلك العقل ليثقف الأسرى في كافة السجون والأقسام التي تنقل بها طيلة الـ 25 عاما التي أمضاها حتى الآن خلف القضبان، إضافة إلى ثلاث سنوات ونصف أمضاها حين كان فتى في الـ 15 من عمره (1991-1994).
استغل العارضة سنوات سجنه الطويلة، ليثقف ويعلم نفسه أولاً، قبل أن يصبح كاتباً، وينشر العديد من الكتب في مواضيع مختلفة، منها: (الرواحل.. الواقع والمأمول، وفقه الجهاد، وتأثير الشيخ الغزالي على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين؛ منهجا وفكراً).
في إصداره "الرواحل.. الواقع والمأمول" الصادر عام 2014، والذي كتبه من عرينه بسجن بئر السبع، يدفع العارضة بكل قوة إلى القراءة والعلم والتثقيف، ذاهباً إلى التوعية والإرشاد، ومقدماً دروساً تعلمها من الكتب والحياة وشاشة التلفاز والصحف.
كانت تسمى وسائل الإعلام بـ "السلطة الرابعة" وفي الحقيقة إنها تمثل السلطة الأولى أو القوة الناعمة لما تتمتع به من امتياز وقوة وتأثير، وتملك القدرة على التغيير الشامل من القمة إلى القاع في المبادئ الكبرى والجزئيات المتغيرة والصغيرة فلا تعترضها العقبات وهي تخاطب العقول وتطرح الأفكار وتقلب الموازين وتبدل القيم، فبعد عصر العولمة وبفضل التقنيات الحديثة التي قربت المسافات وقلصت الجغرافيا زالت الحدود القومية والوطنية للدول والشعوب وأصبحت وهمية تخترقها موجات البث من كل صوب. فالفضاء لا يعرف جغرافيا الحدود والبث ليس له حدود أو مكان لا يتعداه.
تعتبر وسائل الإعلام الجبهة الأولى والسلاح الأول لكل دولة تطرح رؤاها سواء كانت من منطلق التنافس أو الصراع الثقافي أو العسكري أو النفوذ السياسي، فالذي يمتلك الإعلام الأقوى هو صاحب السبق في كل الميادين مهما كانت إمكانيته.
إن الإعلام مثله مثل أي إنتاج بشري صناعي أو فكري نظري له استخدامات متعددة التوجه، فقد يكون استخدامه لمصلحة الناس وقد يكون العكس وهذا يعود للفلسفة والأيديولوجيا التي تقود الإعلام ذاته، والأهداف التي يسعى لتحقيقها العقل الذي يوجه ويسيطر على وسائل الإعلام.
ويتابع العارضة في حديثه عن الإعلام: الأصل في الإعلام خدمة الإنسان وتعزيز القيم الإنسانية ومحاربة الظلم والفساد الاجتماعي والسياسي والعمل على نشر السلم والوعي الاجتماعي، فهو إعلام أخلاقي يحافظ على ثقافة المجتمعات مع مراعاة الخصوصية، يقوي قيمها ويعزز نموذجها الحضاري ويقدم صورة عن المجتمع الإنساني الذي ينطلق منه دون تشويه وتعميم للسوء، وتزييف للحقائق. الإعلام أداة كبرى ومادة عظيمة إن تجرد من المصالح الذاتية والنوايا السيئة سيكون له تأثير عظيم على الناس وخدمة البشر.
وفي فصل "وسائل القراءة" يكتب العارضة: في عصر المعلومات اليوم تزداد وسائل القراءة وتتعدد، وكل يوم يأتي علينا بجديد وآخرها الجريدة الإلكترونية التي ستكون بديلا عن المجلة والصحيفة المطبوعة، وشبكة الانترنت ووسائل الإعلام والهواتف النقالة. كلها وسائل علم ويجب الاستفادة منها لكن لا بد من التركيز على مسألة وهي أن هذه الوسائل بمجموعها في أغلبها ليست بأيدينا بل بأيدي الطرف الآخر، فهو يقدم نوع وحجم المعلومة ويتحكم في أذواق الناس واتجاهاتهم إلا من رحم ربي، فلذلك يجب الاعتماد على المصادر الموثوقة في الإعلام والإنترنت والصحافة بكل أشكالها؛ لأنها تحمل ذات الرسالة، وهذا موضوع طويل وشائك وأفتقر لكثير من المصادر نتيجة وضعي داخل السجن، ويمكن للإنسان أن يدرس عن هذه المادة لكثير من الإعلاميين والمثقفين والعلماء والمفكرين الذين يتحدثون عن آليات عمل وسائل الاتصال والإعلام حتى يعرف المرء أين يقف.
وأضاف: أرفض الموقف السلبي الذي يريد العزلة وعدم استخدام التقنيات الحديثة بحجة أنها ليست بأيدينا وليست من صنعنا، بل أرى أنه من خلال التوجيه ونشر الوعي يمكن الاستفادة منها بشكل كبير وتجنب أضرارها.
وفي حديثه عن التاريخ، يكتب العارضة: "إن التاريخ عقل الأمة، وبالتراكم التاريخي تبلغ الأمة الرشد، ولا قيمة لأمة بلا تاريخ، ومن أجل النهضة الحضارية والخروج من الأزمة التاريخية التي تحياها الأمة لا بد لها من أن تدرس التاريخ دراسة واعية وتأخذ العبرة من الماضي، وتتعلم من تجارب الأمم".
دراسة التاريخ هنا والاهتمام بعلم التاريخ ليس المقصود به فقط تاريخنا الخاص، بل تاريخ الأمم الأخرى وكيف صعدت على السلم الحضاري والإنساني. وأول دراسة للتاريخ تكون الدراسة الذاتية، أي تاريخنا نحن المسلمين أولاً، وهذا يشمل دراسة التراث وكل ما أنجزته الأمة العربية والإسلامية عبر العصور، أين أخفقت وأين نجحت، وأين تقدمت وكيف تراجعت؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها