ليس قرار إعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي الذي اتخذته السلطة الوطنية، كمثل قرار التطبيع الذي أقدمت عليه دولة الإمارات العربية، ومملكة البحرين، ومن يعرف ألف باء السياسة، سيعرف ذلك، وسيعرف أن الاعتراض والاحتجاج الوطني الفلسطيني الذي كان ضد اتفاقات التطبيع، إنما كان اعتراضًا واحتجاجًا على خرق ثوابت في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، خاصة مبادرة السلام العربية، وبقدر ما كان الجرح الذي خلفته اتفاقات التطبيع في جسد الروح الفلسطينية موجعًا، بقدر ما كانت بعض نصوص الاعتراض موجعة في توصيفاتها، غير أن الموقف الرسمي الفلسطيني ظل بليغًا ومتوازنًا في لغته، وقد منع المس بالرموز السيادية لدول التطبيع العربية، لا بل إن فلسطين القومية لم تقطع علاقاتها مع هذه الدول واكتفت بسحب سفيريها من الإمارات والبحرين، كخطوة احتجاج دبلوماسية، وهذه من سياسات الدول في التعبير عن مواقفها تجاه ما يحدث من خلافات بين بعضها البعض.
ولأن فلسطين، القضية، والتاريخ، والمسؤولية في كيانها السياسي منظمة التحرير الفلسطينية، لا تريد ولن تسعى لقطيعة مع اشقائها العرب، وما كانت يومًا عدمية في سياساتها وفكرها، أعادت سفيريها إلى دبي والمنامة، ولا علاقة لهذه الإعادة ، بقرار إعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي.
وسيعرف العارفون بألف باء السياسة، أن قرار إعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، لم يكن قرار تسوية لأزمات راهنة في الواقع الفلسطيني، بقدر ما هو قرار الضرورة المرحلية، ألا يبقى الحال على ما هو عليه، ومن خلال إعادة تأكيد الصراع مع الاحتلال بجانبه التفاوضي، في إطار الاتفاقيات الموقعة، شرط احترام الجانب الإسرائيلي لهذه الاتفاقيات، وإذا كان هناك نقد لآلية اتخاذ هذا القرار فهذه مسألة أخرى تحتمل النقاش، لكنها لا تحتمل التشكيك والطعن والهجوم.
ولأن من يعرف ألف باء السياسة يعرف كل ذلك، سيرى في هجوم البعض اليوم على القرار الوطني الفلسطيني بإعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، والتشكيك بأصالته الوطنية، وبأنه قرار يكشف خطل الموقف الوطني الفلسطيني ضد التطبيع، نقول من يعرف ألف باء السياسة سيرى في هذا الهجوم- وفي أبسط توصيف له- بأنه هجوم الجاهل في الشأن السياسي، والجاهل بتاريخ علاقات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهو لا يرى وهذا حاله، إن العلاقات الفلسطينية في إطارها السياسي، والتفاوضي مع الجانب الإسرائيلي، لم تكن يومًا في أساسها علاقات تطبيع، وإنما علاقات صراع، ونتاج صراع، أوجبتها اتفاقات أوسلو المرحلية التي كانت غايتها الأساسية الوصول عبر التفاوض إلى إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتحقيق التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، بمعطيات هذه التسوية العملية والواقعية، ونعني إقامة دولة فلسطين المستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية، وتحقيق الحل الممكن لقضية اللاجئين، طبقًا لقرارات الشرعية الدولية، التي عززتها في هذا الإطار مبادرة السلام العربية، التي ما زال الموقف الوطني الفلسطيني يطالب بتطبيق بنودها كما هي، بترتيبها من ألفها حتى يائها.
رحم الله الزعيم الخالد ياسر عرفات لطالما كان يردد- كلما كان هناك هجوم على موقف وقرار فلسطيني- يقدم خطوة أخرى نحو نهاية النفق المظلم، بالقول لم يجدوا في الورد عيبًا فقالوا له يا أحمر الخدين!!
نعرف ومنذ انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطينية، مطلع عام خمسة وستين من القرن الماضي، ومحاولات التشكيك بنهجها، وسياستها، ومواقفها لم تنقطع يومًا، بل ثمة حروب شنت ضدها لمصادرة قرارها الوطني المستقل، وتدمير مشروعها الوطني للحرية والاستقلال، وما زال الحال بهذا الشأن "ما أشبه اليوم بالبارحة" ولكن وفق رؤية وموقف حركة التحرير الوطني الفلسطينية وقائدها الرئيس أبو مازن فإن الإرادة الفلسطينية التي تحررت بقوة القرار الوطني الفلسطيني المستقل، لطالما كانت هي من جعل محاولات البارحة تنتهي إلى فشل وهزيمة، وهكذا ستبقى وهي تدفع بمحاولات اليوم إلى مهاوي الفشل والهزيمة.
على أرض الصراع، تدير القيادة الفلسطينية علاقات هذا الصراع لتسويته بما يحقق لشعبنا الحرية والاستقلال، وبقدر ما تدرك حقيقة وطبيعة المتغيرات من حولنا، وما يخص قضيتنا الوطنية المقدسة، بقدر ما تعمل على أن تخدم هذه المتغيرات قضيتنا ومشروعنا للحرية والتحرر.
لسنا جزيرة معزولة في هذا العالم، ولن نسمح لأحد أن يتكلم ويقرر لنا حالًا ومستقبلًا نيابة عنا، وبالطبع ستظل الثريا أعلى من الثرى، وهذا يعني وبوضوح شديد استحالة عقد المقارنة بين قرار السلطة الوطنية إعادة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، وقرار التطبيع.
وثمة ملاحظة أخيرة، الذين يقولون اليوم إن حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" علقت المصالحة بعد قرار إعادة العلاقات، هم الذين لا يريدون للمصالحة أن تكون، وقد علقوا هم أمر المصالحة منذ ثلاثة عشر عاما مضت، وما زالوا يعلقونه بذرائع وحجج شتى، وبشعارات لا علاقة لها بالواقع، وادعاءات لا تتعامل مع الحقيقة، ولا تقربها حتى!! ونعرف كان لهؤلاء دوما دروب للهروب من المصالحة، وما زالوا- على ما يبدو- على هذه الحال التي نأمل ألا تتواصل بكل تأكيد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها