"على هذه الأرض ما يستحق الحياة". وعلى هذه الأرض ما يستحق الإبادة. ثنائيتان تتنازعان أرضًا واحدة، يمكنها أن تكون فضاء رحمة وسلام للعالمين. ثنائية استحقاق الحياة يمارسها، من امتدت جذورهم إلى آلاف السنين قبل ميلاد الديانات. الثانية يمارسها الطارئون على الأرض. 

دخلنا موسم إبادة الزيتون، بما هو رمز فلسطيني، وهو فلسطينيّ الجذور والتاريخ. في كل يوم تطالعنا، وسائل الإعلام بعدد الضحايا، وصور جثث أشجار الزيتون تتكوم بالآلاف في الحقول، وقد تشبثت ببراعم حبّاتها. ولا تنجو بضع شجرات منها، في حدائق البيوت، فهي أضحت الخصم اللدود، لأعداء الحياة.

صور شجر الزيتون مسجى في الحقول، وأصحابها المكلومون يتأملونها بصبر يماثل صبرهم عليها لسنوات وسنوات، حتى كبرت وأثمرت.. ولا يملكون حق الصراخ، بل يأتيهم صوت من العالم الآخر صارخا يا وحدنا! وتتساءل: ماذا سيفعل هؤلاء الرجال، وقد تحول رزقهم إلى ركام، إعادة الزرع تحتاج لجيلين أو ثلاثة حتى تأتي أكلها! وهل دوّنت الشجرات ذاكرتها ووصيتها قبل الرحيل؟ بماذا شعرت وهي تتلقى ضربات البلطات وتهوي أرضا؟ ذاكرتها حتما دونت تاريخا مجيدا لها، منذ بدء الخليقة. يوم كانت رمزًا للحكمة، في الزمن الإغريقي، فأنارت لهم الهياكل والمعابد. ويوم نُصّبت رمزًا للسلام. ويوم زفّت تباشير عودة الحياة للكون، يوم حملتها بمنقارها الحمامة وعادت بها إلى سفينة نوح.

كانت وفرتها رمزًا للرخاء وللخير، ونقصانها دليل الجوع والعوز. كرّمتها الديانات في كل المناسبات. ودخلت طقوس عباداتهم، في كنائسهم ومساجدهم، وما زالت تحتفظ بمكانتها. ذكرت في القرآن الكريم في عدة مواقع: "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دريّ! يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم".. وجاء أيضًا "كلوا الزيت، وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة".

ويستذكر الزيتون، تحت ضربات البلطات، ما جاء في الكتاب المقدس "الأولاد مثل غروس الزيتون حول مائدتك"، ويتساءل إن كان حامل البلطة يذكر وصية كتابه المقدس.

وأعطت الشجرة المباركة اسمها للجبل المقدسي.. جبل الزيتون، حيث كان يبيت المسيح ليلاً بعد أن يقضي نهاره في القدس واعظا. وفي بستان الزيتون صلى، وتفيّأ ظلاله. وهناك، مُسح المسيح بالزيت، وعليه كان موته وكانت قيامته المجيدة.. فدخل طقس المسح بزيت الزيتون طقوس المعمودية وتثبيتها، حيث تمسح يد الكاهن بالزيت المقدس.

وجاء في الكتاب المقدس "لا تقطفوا شجرة الزيتون حتى آخر حبة، بل اتركوا عليها بعض ثمارها ليأكل منها الناس والطيور والحيوانات البرية". ثم تكرّست رمزا عالميا للسلام، وفي قاعة الأمم المتحدة، رفعها القائد ياسر عرفات شامخة إلى جانب البندقية، كرمزين للسلام وللحرب. 

.. ذاكرة الزيتون الحافلة بالأمجاد والتقديس، ها هي تهوي الآن شهيدة.. تهمس إحدى الشجرات بتعب لصديقتها: أهذه نهايتنا يا صديقتي؟ ترد عليها بتعب: لا.. لقد تركنا جذورنا في رحم الأرض".

وعلى مقربة من مسرح الحدث.. تدور مجزرة هدم البيوت. آلات حديدية عملاقة، وبضع ضربات منها تسوّي البيت بجميع محتوياته بالأرض.. يقف أصحابه يشهدون اغتيال أمنهم وأحلامهم وصور أجدادهم وأطفالهم.. وتسارع طفلة باكية، لإنقاذ كتبها من بين أنياب الجرافة..

وهؤلاء أوفر حظًا من الذين يُجبرون على هدم بيوتهم بأيديهم، وبمعاول بدائية.. ما زالت الحجارة تعبق بعرق بناتها، وها هي اليد ذاتها تهدم بمرارة ما شيّدته.. من يستطيع تخمين حميمية وأنين الحوار بين الحجر وبين صاحبه.. وكيف انقلب فرح البناء، إلى وجع الهدم، وبعثرت الأطفال، وماذا يدور في خلد هؤلاء الأطفال الذين يشهدون انهيار حلم أمنهم، وماذا تُراكم ذاكرتهم الطرية، وكيف ستكون ردّات فعلهم المستقبلية! وطفلة عادت من المدرسة لتجد بيتها قد تلاشى حاملا معه لعبها وأحلامها، من يستطيع تصوير تعابير وجهها! هل يعتذر الرجل لحجارة بيته، وهو يهوي عليها بمعوله؟ هل سمع وجعها وعتابها له؟ كلاهما ضحية بكت دما..

مفهوم المجزرة لم يعد مقتصرًا على اغتيال البشر.. فهناك مجازر للشجر وللحجر.. ولكل شيء في ساحة هذا الوطن ذاكرة يدوّنها قبل رحيله..