لا أظنُّ أنَّ واحداً منّا قد سَلِمَ من الرّغبةِ في امتلاكِ القُدرةِ على استقراءِ المُستقبَلِ واستِباقِ أحداثِهِ وإفشالِ قُدرتِها على مفاجأتنا والانقضاضِ على خطَطنا التي نظنُّ أنّنا أعددناها بإحكامٍ فإذا بالمستقبلِ يذهبُ بها أدراجَ الرّياحِ في لحظات. ولعلَّ المُشعوذينَ والمنجّمينَ أقدرُ النّاسِ على فهمِ الحاجةِ إلى استقراءِ المُستقبَلِ، لذلك يبرعونَ في استغلالِ تلكَ الحاجةِ لخداعِ البُسطاءِ والتلاعبِ بتفكيرِهم. لا تنجيمَ في السياسةِ ولا شعوذةَ ولا قراءةَ كفٍّ، فالمُستقبلُ هو نتاجُ عمليّةٍ متواصلةٍ من البناءِ الذي يراكِمُ الفِعلَ دونَ توقّفٍ عن تعديلِ الخطط وتصحيحِ الخلَلِ إنْ وقعَ، فالتصحيحُ في اللحظةِ المناسبةُ هو الذي يقي هرَمَ الفعلِ المتراكِمِ من أنْ يُبنى على أسسٍ ينخرُها سوسُ تراكمِ الأخطاءِ بدلاً من مراكمةِ لبناتِ الاستعدادِ للغد. لنْ نكتشفَ جديداً حين نقولُ أنَّ المنطقةِ برمّتها في عينِ العاصفةِ، فهذا ليس تنجيماً وإنّما هو استقراءٌ للواقعِ بما يشكّلهُ من امتدادٍ لسنواتٍ طويلةٍ من الخرابِ والدّمارِ، هي التي أوصلت المنطقةَ إلى حالتِها الرّاهنةِ، وبالتّالي من السّهلِ علينا رسمُ صورةٍ تقريبيّةٍ للمستقبلِ القريبِ إنْ بَقيَ الحالُ على ما هو عليهِ الآن. ينطبقُ هذا الاستقراءُ على الصراعِ الايرانيِّ الأمريكيِّ المستمرِّ منذ الإطاحةِ بنظامِ شاهِ إيرانَ عام ١٩٧٩، وهو صراعٌ بينَ الرغبةِ الأمريكيةِ بالسيطرةِ على المنطقةِ وبينَ المحاولاتِ الإيرانيّةِ لمشاركةِ أمريكا في اقتسامِ النّفوذِ واستغلالِ الحروبِ الأمريكيّةِ ضدَّ دولِ المنطقةِ وتفتيتِ تلك الدّولِ لتعزيزِ السيطرةِ الإيرانيّةِ على العواصمِ العربيةِ تارةً بالتوافقِ الصّامتِ مع أمريكا وتارةً عبرَ الصّدامِ العنيفِ من خلالِ وكلاءِ الطرفينِ المتصارعَينِ ودونَ الوصولِ إلى حربٍ مفتوحةٍ بينَهما.
تتجهُ الصراعاتُ والحروبُ العديدةُ في المنطقةِ إلى نقطةِ الحَسْمِ، نشهدُ هذا في سوريا حيثُ تشيرُ الوقائعُ إلى هزيمةِ الحلفِ المعادي للنّظامِ. في المقابلِ كانت الاحتجاجاتُ الشعبيّةُ في لبنانَ والعراقِ محاولةً لإحداثِ توازنٍ في حساباتِ الرّبحِ والخسارةِ بين المتصارعين على النّفوذِ. كما تحاولُ تركيا التعويضَ عن تحجيمِ دورِها في سوريا عبرَ محاولةِ التّدخّلِ المسلّحِ في ليبيا لمساعدةِ حلفائها من جماعةِ الإخوانِ المسلمينَ. في ظلِّ هذه الأحداثِ المتلاحقةِ وفي إطارِ الردِّ الإيرانيِّ على المخاطرِ الناتجةِ عن القلاقلِ الدّاخليةِ والاحتجاجاتِ الشّعبيةِ في دولٍ عربيةٍ تعتبرُها إيرانُ ضمن قائمةِ الغنائمِ التي حصلتْ عليها بدهائها أو بغباءِ السياساتِ العربيّةِ وغيابِها، أو بالتوافقِ الصامتِ مع أمريكا، أو بكلِّ ما سبقَ، كانَ التحرّكُ الإيرانيُّ المنظّمُ والهادفُ إلى إعادةِ التركيزِ على المواجهةِ مع أمريكا، لأنّ هذا هو المدخلُ لتجاوزِ الحراكِ الشعبيِّ الدّاخليِّ والخارجيِّ. الردُّ الأمريكيُّ باغتيال الجنرال قاسم سليماني ليس ردّاً عشوائياً أو متهوّراً غير محسوبِ العواقبِ والنّتائجِ، فالإدارةُ الأمريكيةُ التي لم تحقق في سياستِها الخارجيّةِ أيَّ إنجازٍ حقيقيٍّ تحتاجُ في عامها الانتخابيِّ إلى تحقيقِ إنجازٍ لا يكلّفُها كثيراً ويضمنُ لها دعماً مطلقاً من دوائرِ النفوذِ الصهيونيِّ. الاغتيالُ تمَّ في العراقِ وبذلكَ تتجنّبُ أمريكا خطرَ المساسِ بالسيادةِ الإيرانيّةِ، لكنّها بذلكَ الاغتيالِ قد مارست أقصى درجاتِ الاستهتارِ بالسيادةِ العراقيّةِ، وكأنَّ هذه الإدارةَ لا تعيرُ اهتماماً يذكُرُ لحكومةِ العراقِ التي تمثّلُ حتى الآنَ حلقةَ الوصلِ المجرّبَةَ ونقطةَ التقاطُعِ بين المصالحِ الأمريكيّةِ والإيرانيّة. غنيٌّ عن القولِ أنَّ أيَّ صراعٍ جديدٍ يضافُ إلى الصّراعاتِ القائمةِ هو مصلحةٌ إسرائيليّةٌ خالصةٌ، ولا مصلحةَ لنا كشعبٍ فلسطينيٍّ لا بتدميرِ إيرانَ ولا بزعزعةِ أمنِ الدّولِ العربيّةِ وخاصّةً في منطقةِ الخليجِ العربيِّ. لقد أثبتت تجربةُ الحروبِ المتواصلةِ منذُ اندلاعِ الحربِ العراقيّةِ الإيرانيةِ وما تبعها من غزوٍ أمريكيٍّ للعراقِ واقتسامٍ فعليٍّ للنفوذِ بينَ إيران وأمريكا أنّ قضيةَ شعبِنا هي الضحيّةُ الأولى لكلِّ هذهِ الحروبِ. ولنْ تكونَ أيُّ حربٍ جديدةٍ سوى هديّةٍ للاحتلالِ الاستيطانيِّ على حسابِ فلسطين والدّولِ العربيّةِ ومستقبلِ المنطقةِ بأسرِها.
*مرّةً أخرى تُثبِتُ الوقائعُ أنّ دولةَ الاحتلالِ والاستيطانِ تفقدُ قدرتَها على القيامِ بدورِ الأداةِ الطيّعةِ في يدِ دولِ الغربِ الاستعماريِّ، وتضطرُّ أمريكا إلى تصدّرِ المشهدِ بشكلٍ مباشرٍ. لا "نُنجّمُ" ولا نقرأُ كفَّ القَدَرِ حين نقولُ أنَّ المشروعَ الصّهيونيَّ في فلسطينَ مصيرُهُ الفشلُ، وهذه حقيقةٌ لن يغيّبَها صخبُ الحروبِ المُفتَعَلةِ ودخانُها.
٥-١-٢٠٢٠
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها