لو لم يلجأ الإنسانُ إلى التخطيطِ لما استطاعَ البقاءَ والتكيّفَ مع ما يواجهُهُ من تحدّياتِ الطبيعةِ وأهوائها منذُ أن تفتّحَ عقلُهُ وبدأ يتفهّمُ أنَّ شروطَِ البقاءِ تتجاوزُ الإكتفاءَ بالبحثِ عن قوتِ يومهِ لضمانِ استمرارِهِ على قيدِ الحياة. لقد استوعبَ الإنسانُ مبكّراً أنَّ مهمتّهُ الأولى هي ضمانُ تواصُلِ الحياةِ من بعدِه وتوفيرُ شروطٍ أفضلَ لمن سيرثُهُ ويحملُ من بعدِهِ سرَّ الحياةِ وكنوزَ المعرفةِ والثّقافةِ التي تميّزُ الإنسانَ عن غيرِهِ من المخلوقاتِ وتميّزُ المجموعاتِ البشريّةَ بعضَها عن بعضٍ ليصبحَ الاختلافُ والتنوّعُ أساسَ وحدةِ الإنسانيّةِ ومحرّكَ تطوّرِها. لم يترك الإنسانُ مصيرَهُ للصّدفةِ بل بدأ بزراعةِ الأرضِ والعنايةِ بها لضمانِ حصولِهِ على ما يريدُ من المحاصيلِ بعيداً عن تعبِ الصّيدِ ومخاطِرِه. وبالتّخطيطِ وحدَهُ انتقلَ الإنسانُ من حياةِ الكهوفِ إلى جدرانِ البيوتِ التي توفّرُ لهُ الحمايةَ من نَزَقِ الطبيعةِ وشرِّ الأعداء. هكذا خطّطَ الإنسانُ لتوفيرِ القوتِ والمسكنِ الآمنِ واللباسِ الملائمِ ليس لنفسهِ فقط وإنما لعائلتِهِ ولكلِّ التشكيلاتِ المجتمعيّةِ التي ساهمَ في تطويرِها حتى وصلتْ إلى قمّةِ التنظيمِ واستقرّتْ عندَ مفهومِ الشّعبِ والأمّة.
التخطيطُ هو أداةُ رسْمِ صورةٍ للمستقبَلِ يمكنُ التنبّؤ بملامِحِها، ومع أنّهُ لا يشكّلُ ضمانةً مُطلقةً بالوصولِ إلى الغايةِ المنشودِةِ لكنّهُ يسدُّ الثغراتِ التي يمكنُ أنْ يتسلّلَ منها الفشلُ. لقد أدركَ الإنسانُ أهميّةَ سلاحِ التخطيطِ وجعلَ منهُ أولويّةً لتوفيرِ شروطِ التغلّبِ على الطبيعةِ والأعداءِ، وظلَّ هذا السلاحُ رديفاً للتقدّمِ وتحقيقِ الانجازاتِ والانتصاراتِ بعيداً عن الاتكّالِ على الحظِّ والصُّدفةِ أو حتّى على الحقِّ والعدالةِ، وإلا لماذا فازَ تخطيطُ خالد بن الوليدِ على فوضى المسلمينَ في معركةِ أحُد؟ ألم يكنْ الحقُّ بجانِبِهم ورسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ بينَهم؟ لعلَّ معركةَ أُحدٍ هو الدّرسُ القاسي الذي تعلّمَ منهُ العربُ المسلمونَ وجعلوهُ ناقوسَ الخطرِ الذي ينبّهُهم إلى أولويّةِ سلاحِ التخطيطِ وضرورةِ نبذِ الفوضى لضمانِ انتصارِ الحقّ.
نحنُ أولى النّاسِ بالتخلّصِ من ثقافةِ الفوضى، واذا كانَ التخطيطُ ضمانةَ النّجاحِ فلن تقودَ الفوضى أصحابَها سوى إلى الفشلِ والهزيمة. ليست ثقافةُ الفوضى حكراً على السياسةِ والاقتصادِ والحياةِ العامّةِ بكلِّ جوانبِها، لكنّها آفةٌ تبدأ من إهمالِ الفردِ لواجباتِهِ وتخلّيهِ الطّوعيِّ عن تطويرِ ذاتِهِ وتحصينِ مستقبلهِ الشخصيِّ ومستقبلِ من يشملهُم بالمسؤوليةِ والرّعايةِ، والاكتفاءُ بدلاً من ذلكَ بدورِ المراقبِ السلبيِّ والنّاقدِ دونَ أنْ يكبّدَ نفسَهُ عناءَ اتّباعِ القولِ المأثورِ: إعملْ لدُنياكَ كأنّكَ تعيشُ أبدا. تكفي وقفةٌ سريعةٌ للتمعّنِ فيما يجري حولَنا لكي نسارِعَ إلى المباشرةِ في التصدّي لكلِّ مظاهرِ الفوضى ووأدِها قبلَ أنْ تصبحَ صاحبةَ اليدِ الطّولى في التحكّمِ بحياتِنا اليوميّةِ ومستقبلِنا، ومن أرادَ لهذا الشّعبِ خيراً فليس له من خيارٍ سوى أنْ يكونَ سنداً للقانونِ والنّظامِ والتماسكِ الوطنيِّ، فلا معنى للحديثِ عن ضرورةِ إنجازِ الأهدافِ الوطنيّةِ الكبرى عندما يفتقرُ المتحدّثُ إلى مصداقيّةِ الالتزام بالحدِّ الأدنى من الأخلاقِ وهو احترامُ كرامةِ الشّعبِ وحقّهِ بالحياةِ تحتَ سقفِ القانونِ بعيداً عن فوضى الاستقواءِ بكلِّ ما يناقضُ مفهومَ وحدةِ الشّعبِ والوطن.
*الفوضى نقيضُ الحكمةِ والعقْلِ واستخدامِ التجربةِ كأداةِ قياسٍ تمكّنُنا من التخطيطِ لحمايةِ واقعِنا وضمانِ الوصولِ إلى أهدافِنا بأقلِّ الخسائرِ وعبرَ أقصَرِ الطُّرُقِ وأسلَمِها.*
٦-١-٢٠٢٠
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها