كان العالمُ الرّوسيُّ إيفان باڤلوف رائدَ الأبحاثِ العلميةِ في مجالِ السّلوكِ الإراديِّ وردّةِ الفعلِ الغريزيّةِ والمُكتسَبة. وقد حصلَ عام ١٩٠٤ على جائزة نوبل في مجال الطب/الفيزيولوجيا مكافأةً لهُ على أبحاثِهِ التي أثْرَت المعرفةَ البشريّةَ حول الجهازِ الهضميِّ وتفسيرِ الآليّاتِ التي ترافقُ عمليّةِ الهَضمِ بشكلٍ لا يخضعُ لإرادةِ الإنسانِ أو الحيوان. وكانَ هذا مدخلاً لكي يوسّعَ باڤلوف دائرةَ أبحاثِهِ لتشملَ الدّماغَ والجهازَ العصبيَّ بشكلٍ عام. عندَ قيامِ ثورة أوكتوبر الشيوعيّةُ عام ١٩١٧ رفضَ العالِمُ الرّوسيُّ الهجرةَ إلى السّويدِ رغم العرضِ المُغري الذي قدّمتْهُ لهُ أكاديميّةُ العلومِ السّويديّةُ، وآثرَ البقاءَ في وطنِه، وهو ما جعلَ منهُ بطلاً قوميّاً وفتحَ أمامَهُ أبوابَ البحثِ العلميِّ بتوجيهٍ من لينين نفسِهِ ثمّ ستالين من بعدِه.
من الاكتشافاتِ التي توصّلَ إليها باڤلوف أنَّ إفرازَ اللُعابِ هو ردّةُ فعلٍ لا إراديّةٌ ترافقُ تناوُلَ الطّعامِ عندَ الإنسانِ والحيوان. لم يكنْ هذا "الاكتشافُ" سوى مدخلٍ للأبحاثِ اللاحقةِ التي كرّسَ لها هذا العالِمُ سنواتٍ طويلةً من حياتِهِ، وأدّتْ تجارِبُهُ التي أخضعَ لها بعضَ الحيواناتِ كالكلابِ والأبقارِ وغيرِها إلى اكتشافِ نوعٍ آخرَ من ردّةِ الفعلِ هي ردّةُ الفعلِ المُكتسَبةُ. فبينما يرتبطُ إفرازُ اللّعابِ اللاإراديُّ بتناولِ الطعامِ، فإنّ ربْطَ الطعامِ بحافزٍ يسبقُهُ كالصّوتِ أو الضوءِ وتكرارَ ذلكَ لمرّاتٍ متعاقبةٍ سيؤدّي إلى إفرازِ اللعابِ لمجرّدِ سماعِ الصوتِ أو رؤيةِ الضّوء. ربّما يبدو هذا الأمرُ الآنَ عاديّاً لكنَّ الفضلَ يعودُ إلى باڤلوف في ترسيخِهِ واكتشافِ العمليّاتِ المعقّدةِ التي تجري في الجهازِ العصبيِّ لتجعلَ الحافزَ الخارجيَّ قادراً على أن يكونَ بديلاً للعاملِ الحقيقيِّ المرتبطِ بردّةِ الفعلِ الغريزيّة.
كانَ باڤلوف فخوراً بما وصلَ إليهِ من نتائجَ أخضعَ لها مجموعةً من الأبقارِ وأدّت إلى ترسيخِ ردّةِ الفعلِ المكتسبةِ نتيجةً لحوافزَ متعدّدة. وذاتَ يومٍ تعرّضت مزرعةُ الأبقارِ إلى عاصفةٍ من الأمطارِ، ووصلَ منسوبُ المياهِ إلى مستوى كادت معهُ الأبقارُ أن تغرقَ، ولمّا انحسرت المياهُ وتمَّ تنظيفُ المزرعةِ عادَ باڤلوف إلى أبقارِه ليكتشفَ أنّها "نسيت" بسببِ الصّدمةِ كلَّ ما تعلّمتْهُ في السابقِ من ردّاتِ الفعلِ المكتسبةِ، فقالَ جملتَهُ الشّهيرةَ: لقد تعرّضت الأبقارُ لعمليةِ "غسيلِ دماغٍ" نتيجةً للصدمةِ التي تسبّبت بها مياهُ الأمطارِ.
المرّةُ الأولى لاستخدامِ مصطلحِ "غسيلِ الدّماغِ" في المجالِ السياسيِّ كانت أثناءَ الغزوِ الأمريكيِّ لشبهِ الجزيرةِ الكوريّةِ في خمسينيّاتِ القرنِ الماضي، وذلكَ لوصفِ حالاتِ اعتناقِ كثيرٍ من أسرى الجيشِ الأمريكيِّ للعقيدةِ الشيوعيّةِ بعد الإفراجِ عنهم من المعتقلاتِ الكوريّةِ الشّماليّة، فقد كانوا يخضعون لبرامجَ منتظمةٍ من المحاضراتِ والتدريبِ والعقوباتِ والحوافزِ التي كانت تنجحُ في كثيرٍ من الأحيانِ في تغييرِ قناعاتِ الأسرى. ونستطيعُ الآنَ رصْدَ طُرقٍ وأدواتٍ لا حصرَ لها تهدِفُ إلى تبديلِ قناعاتِ الأفرادِ والمجتمعاتِ والشّعوبِ من خلالِ إخضاعِها لبرامجَ مدروسةٍ ومنتظمةٍ تهدفُ إلى تبديلِ نمطِ حياتِها وحرفِ أولويّاتِها وإجبارِها على التخلي عن ثقافتِها. وهذا ما نلحظهُ من الحملاتِ المتكرّرةِ التي تستهدفُ منظومةَ الثّوابتِ الوطنيّةِ والمجتمعيّةِ الفلسطينيّةِ، وهي محاولاتٌ لا تقتصرُ على الأشكالِ الفجّةِ الصارخةِ التي يتعرّضُ لها شعبُنا ليلَ نهار، لكنَّ أخطرَها هي تلكَ الحملاتُ التي تتستّرُ برداءِ الحرصِ على المصلحةِ الوطنيّةِ أو على مصالحِ فئاتٍ معيّنةٍ كالمرأةِ والشبابِ والأقلّياتِ بأشكالِها المختلفة. يبدأُ التصدّي لهذه المحاولاتِ بتحديدِها وتسميتِها بلا تردّدٍ، لكنّ ذلك لا يكفي لدرءِ خطرِها، فعمليّةُ "غسيلِ الدّماغِ" التي تستهدفُنا بحاجةٍ إلى العملِ على أكثرَ من مستوى لكيْ ننمّي الحصانةَ والمناعةَ الفرديةَ والعامّةَ ضدَّ أخطارِها. لا سلاحَ في هذهِ المعركةِ يفوقُ بنجاعتِهِ سلاحَ الحقيقةِ والصّراحةِ والصّدقِ، ولا شيءَ يمكنُ أنْ يقفَ في وجهِ طوفانِ الكذبِ والإشاعةِ والتخوينِ والتّكفيرِ سوى العملِ التربويِّ والتثقيفيِّ الدؤوبِ والحريصِ على ترسيخِ المفاهيمِ الإيجابيةِ في السلوكِ الشخصيِّ وفي الممارسةِ اليوميّةِ وخاصّةً من قِبَلِ الأشخاصِ والمؤسّساتِ العامّة. فالمثالُ الإيجابيُّ هو أحدُ أهمِّ عواملِ زيادةِ ثقةِ الشّعبِ بنفسِهِ وبالقائمينَ على الشأنِ العامِّ، وهذهِ الثّقةُ هي ضمانةُ الصّمودِ والقدرةِ على تحمّلِ تبعاتِ التمسّكِ بالمشروعِ الوطنيّ.
*لنْ يكفَّ الأعداءُ عن محاولاتِ إحداثِ تغييرٍ شاملٍ في الوعيِ الوطنيِّ يؤدي إلى "غسيلِ دماغٍ" يذهبُ بكلِّ ثوابتِنا ومحرّماتِنا الأخلاقيّةِ والوطنيّةِ، ولا خيارَ أمامَنا للتصدّي لهذهِ المحاولاتِ سوى ترسيخِ ثقافةِ الالتزامِ بالحقيقةِ والانحيازِ لها وتغليبِها على كلِّ المغرِياتِ الكاذبةِ، فالحقيقةُ هي سلاحُنا ودِرعُنا وضمانةُ تعزيزِ ثقتِنا بالنّصر.
١٥-١٢-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها