لم تكنُ منظمةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ قادرةً على القيامِ بدورِها التاريخيِّ إلا لأنّها شكّلت جبهةً وطنيّةً عريضةً جمعت كلَّ التّياراتِ الفكريّةِ والنضاليةِ في السّاحةِ الفلسطينيّةِ. لكنَّ الدّورَ المحوريَّ للمنظّمةِ ظلَّ مرتبطًا بتحالفِ حركةِ "فتح" والجبهتَين الشعبيّةِ والديمقراطيّةِ، وهو تحالفٌ فرضهُ حجمُ تلكَ القوى وتأثيرُها على امتدادِ سنوات العملِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ، وخاصةً في ذروةِ مرحلةِ الكفاحِ المسلّح، فقد كانَت قيادةُ "فتح" للحركةِ الوطنيةِ الفلسطينيّةِ نتاجَ قيادتِها للكفاحِ المسلّحِ وتحمّلها العبء الأكبرَ في كلِّ معاركِ الدّفاعِ عن الثورةِ ضدَّ العدوِّ وضدَّ محاولاتِ المساسِ باستقلاليةِ القرارِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ. وقد ارتكزَ تحالفُ "فتح" والجبهتين الديمقراطيةِ والشعبيّةِ إلى دورِ الجبهتين المنحازِ دومًا للموقفِ الوطنيِّ ورفضِ التدخلاتِ الخارجيةِ في الشأنِ الفلسطينيِّ مهما كان مصدرُها. وعندما انتقلَ ثِقلُ العملِ الوطنيِّ إلى الوطنِ مع بدايةِ انتفاضةِ الحجارةِ كرّست حركةُ "فتح" دورَها القياديَّ عبرَ قيادتِها لتلكَ الانتفاضةِ ومن خلالِ الدورِ الريّاديّ الميدانيِّ لأعضائها وكوادرِها وقياداتِها داخلَ الأرضِ المحتلّة. ورغمَ بروزِ الحركاتِ الإسلاميّةِ وخاصةً حركة "حماس" فإنَّ ذلك لم يمسَّ المكانةَ القياديّةَ لحركةِ "فتح"، وهو ما أكدتْهُ المعاركُ التي خاضها شعبُنا بعد قيامِ السلطةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ. هكذا مارست "فتح" دورَها القياديَّ في انتفاضةِ النّفقِ وفي انتفاضةِ الأقصى، وهكذا تمارسُ قيادةَ المقاومةِ الشعبيّةِ، وهكذا تتقدّمُ الصفوفَ في مواجهةِ صفقةِ القرنِ والتصدّي لمحاولاتِ فرضِ الحلِّ الأمريكيِّ-الإسرائيليّ. وهذا هو التجسيدُ الفعليُّ لشعارِ "فتح": من يصنعُ الأحداثَ يتّخذُ القرار.
لا تضعُ "فتح" رأسَها في الرّمالِ ولا تغمضُ عينيْها عن رؤيةِ الحقيقةِ التي تقولُ أن الواقعَ قد تجاوزَ تفاهماتِ أوسلو وإطارَها الزّمنيَّ، لكنَّ "فتح" التي تمارسُ دورَها المسؤولَ في قيادةِ شعبِها تدركُ أيضًا أنْ التّخلّصَ من التزاماتِ أوسلو لن يكونَ ممكنًا دونَ الاستنادِ إلى الوحدةِ الوطنيّةِ القادرةِ على تحصينِ الموقفِ الوطنيِّ وتمكينِ شعبِنا من الانتقالِ إلى مرحلةِ فرضِ خياراتِهِ على الأرضِ. ولن نتمكن من استعادةِ الوحدةِ الوطنيّةِ دونَ إعادةِ الاعتبارِ إلى دورِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ المستندِ إلى قيادةِ "فتح" ومعها رفيقتا دربِها الجبهتان الشعبيةُ والديمقراطية. لكنّ ذلكَ ليس مرتبطًا فقط بإرادةِ "فتح"، مع الإقرارِ بأنّها بحُكمِ موقعها تتحمّلُ مسؤوليةَ المبادرةِ والقدرةِ على استيعابِ الآخرين والتنازلِ حيثما كانَ ذلك مطلوبًا. المطلوبُ من الرّفاقِ في الشعبية والديمقراطيةِ التخلّي عن وهمِ الوقوفِ في منتصفِ المسافةِ بين "فتح" و"حماس"، ولا ندري ما الذي يجبُ على "حماس" أنْ تفعلَهُ ولمْ تفعلْهُ بعدُ حتى يقتنعَ المتمترسونَ في منتصفِ الطريقِ أنَّ المشروعَ الانقلابيَّ جزءٌ من مشروعِ القضاءِ على حلمِ شعبنا ببناءِ دولتِهِ المستقلّةِ، وأنّ مخاطرَ الانقلابِ وما نتجَ عنهُ من شرخٍ طالَ الأرضَ والشّعبَ تفوقُ بشكلٍ غيرِ خاضعٍ للمقارنةِ الخلافاتِ بين قوى منظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ التي لا تمسُّ أبدًا بالثوابتِ الوطنيّةِ وتبقى محصورةً في غالبِ الأحيانِ في إطارِ القضايا التي يمكنُ حلُّها بالحوارِ المستندِ إلى تجربةٍ طويلةٍ من العملِ المشتركِ والذي ظلَّ قادرًا على قيادةِ المسيرةِ الوطنيّةِ رغمَ كلِّ الصّعابِ والتحدّيات.
لقد تجاوزَ أعداؤنا حدودَ أوسلو، فنحنُ الآنَ أمامَ واجبِ البحثِ عن خياراتٍ فلسطينيّةٍ تكونُ قادرةً على تشكيلِ بديلٍ لحلِّ الدّولتينِ الذي قتلهُ ترامب ونتانياهو، ولا يكفي لإفشالِ صفقةِ القرنِ أن نكيلَ الشّتائمَ لأوسلو، فمن يسعى إلى المشاركةَ في تصليبِ الموقفِ الفلسطينيِّ وتحصينِهِ ضدَّ الاختراقِ لا بدَّ أنْ يبادرَ إلى ما هو أكثرُ من تحميل "فتح" وزرَ وآثامَ أوسلو، علمًا بأنَّ منتقدي "فتح" ومن يحمّلونَها تلكَ الآثامِ قد شاركوا في المجلسِ التشريعيِّ وفي الحكومات الفلسطينيّةِ المتعاقبةِ، متظاهرينَ أنَّ ذلكَ لم يكنْ مشاركةً في الأطرِ التي نشأت بناءً على اتفاقيات أوسلو. ونحنُ لا نعيّرُ تلكَ القوى بمشاركتِها في عمليةِ بناءِ المؤسّساتِ الوطنيةِ التي يعملُ شعبُنا على تحويلِها إلى نواةٍ لمؤسّسات الدّولةِ الفلسطينيّةِ، بل إنّ مشاركتَها كانت تعبيرًا عن التزامِها بمصلحةِ شعبِنا والعملِ في سبيلِ خدمتِهِ وتوفيرِ مستلزماتِ صمودِه. لكنَّ الأمانةَ تقتضي الإقرارَ بأنَّ انتقادَ أوسلو من جهةٍ والاستفادةَ من إفرازاتِها من جهةٍ ثانيةٍ لا يمتُّ إلى ثقافةِ النّقدِ المستندِ إلى الحقيقةِ، وإنما هو تهرّبٌ من واجبِ الإستجابةِ لضروراتِ المرحلةِ الرّاهنةِ، وأوّلُها إنجازُ الوحدةِ كشرطٍ لتعزيزِ الصمودِ في وجهِ الهجمةِ الأمريكيّةِ-الإسرائيليّةِ التي تستهدفُ مشروعَنا الوطنيَّ.
*تحيّةً للجبهة الشعبيةِ لتحريرِ فلسطينَ في الذكرى الثانيةِ والخمسين لانطلاقتِها. وفي هذه المناسبةِ لا بدَّ من التأكيدِ أنْ لا بديلَ عن اضطلاعِ كلٍّ من حركةِ "فتح" والجبهةِ الشعبيةِ والجبهةِ الديمقراطيّةِ بالمسؤوليةِ الوطنيّةِ التي تنسجمُ مع الدّورِ التاريخيِّ لهذه القوى، فهي التي يمكنُها أن تشكّلَ مركزَ الاستقطابِ القادرَ على استعادةِ وحدةِ شعبِنا.
١١-١٢-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها