الفسادُ باختصارٍ ووضوحٍ هو استغلالُ المنصبِ للحصولِ على منفعةٍ شخصيّة. ولا ينحصرُ ذلكَ في الرّشوةِ أو الاختلاسِ ولا في الابتزازِ واقتسامِ الدّخلِ بالقوّةِ مع مستثمرٍ أو تاجرٍ أو فلّاحٍ، فالفسادُ يشملُ كلَّ شيءٍ يحصلُ عليه شخصٌ مسؤولٌ دونَ وجهِ حقٍّ وبشكلٍ يميّزهُ عن غيره. ولا تعني المنفعةُ الشخصيةُ شخصَ المسؤولِ الفاسدِ وحدَهُ، فكلُّ تدخّلٍ في المنظومةِ الإداريّةِ أو القانونيّةِ خارجَ إطارِ أحكامِ القانونِ والصلاحيّاتِ هو مظهرٌ من مظاهرِ الفسادِ، وقد يكونُ هذا التدخلُ بهدفِ مساعدةِ قريبٍ أو صديقٍ في الحصولِ على وظيفةٍ أو ترقيةٍ أو في تجنّبِ دفع غرامةٍ أو التهرّبِ من تنفيذِ حُكمٍ قضائيّ.. لا فرقَ بين ذلكَ وبين اختلاسِ المالِ العامِّ، فسرقةُ الوظيفةِ من شخصٍ يستحقّها ومنحُها بـ"الواسطةِ" لشخصٍ آخر هي عمليًّا سرقةٌ لمستقبلِ مواطنٍ لا ذنبَ لهُ سوى أنّهُ لا يحظى بدعمِ مسؤولٍ أو صاحبِ نفوذ. وليس الفسادُ حكرًا على مجتمعٍ أو نظامٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ دون غيره، فهو ظاهرةٌ كالعولَمةِ لا تستثني أحدًا. لكنَّ ذلك لا يعني أنّ هذه الظاهرةَ تتساوى في استشرائها في كلِّ الدّولِ والمجتمعات، ويمكنُ ربطُ الفسادِ وانتشارِه بشفافيّةِ القانونِ ووضوحهِ وبثقافةِ تداولِ السّلطةِ المتلازمةِ مع الرّقابةِ والمحاسبة دونَ أنْ تستثني أحدًا.

 

السُّلطةُ المُطلَقةُ مَفسَدَةٌ مُطلَقة.. ليس هناكَ من مقولةٍ تعبّرُ عن العلاقةِ بين انعدامِ عدالةِ الحكمِ وشفافيّتِهِ وخضوعهِ لمبدأ التَداولِ وبين تفشّي الفسادِ بكلِّ مظاهرِه، وقد خصّصَ قدماءُ اليونانيّينَ مصطلحًا لوصفِ استفحالِ الفسادِ وهو مصطلحُ Kleptocracy المشتقُّ من كلمَتَيْ kleptes أي اللصّ، و krátos اي الحُكْمُ أو السُّلطةُ، وبذلكَ يكونُ الوصفُ الدقيقُ لأشدِّ أصنافِ الحُكمِ فسادًا هو مصطلحُ "سُلطةِ الّلصوصِ"، وهذا هو حالُ الأنظمةِ الاستبداديِّةِ التي تنتهكُ حقَّ البشرِ بالحياةِ وتمتهنُ كرامَتَهم قبلَ أنْ تسرقَ المالَ العامَّ وتنهبَ ثرواتِ الدّولةِ أو تبدّدَها دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ. لكنَّ المشكلةَ الأخطرَ فيما يخصُّ ظاهرةَ الفسادِ هي انتشارُهُ في المجتمعاتِ الفقيرةِ التي لا تمتلكُ من المواردِ إلا قليلَها، وبذلك يصبحُ تأثيرُ الاختلاسِ ونهبِ المالِ العامِّ مضاعفًا لأنّهُ يحرمُ الشّعبَ من الاستفادةِ من دخلِهِ الشّحيحِ ويكدّسُ الثروةَ في أيدي فئةٍ قليلةٍ جشعةٍ لا تحترمُ الشّعبَ ولا ثقافتَهُ أو تقاليدَهُ ولا تلتزمُ بالقانونِ ولا بالأخلاقِ أو الدّينِ معيارًا لتصرّفاتِها. ويزدادُ خطرُ الفسادِ عندما يعمُّ في مجتمعٍ يعيشُ اقتصادُهُ على المساعداتِ والمِنحِ الخارجيّةِ، وكأنَّها تُقَدَّمُ لإثراءِ فئةٍ ضالّةٍ وليسَ لسدِّ احتياجاتِ الشّعبِ الأساسيّةِ وبناءِ أسُسِ اقتصادٍ مُنتِجٍ يكفلُ للناسَ حياةً كريمةً ومستقبلاً آمنًا.

 

كلّما لاحت في الأفقِ إمكانيةُ تنظيمِ الانتخاباتِ في فلسطينَ تتناسى منظّماتُ حقوقِ الإنسانِ وهيئاتُ مراقبةِ أداءِ الحكومةِ جرائمَ الاحتلالِ وتتفرّغُ للتركيزِ على مظاهرِ الفسادِ في مؤسّساتِ السّلطةِ الوطنيّةِ، ومعَ أنَّ أهدافَ القائمين على تلك المنظّماتِ ومصادرَ تمويلِها معروفةٌ للرأي العامِّ فإنَّ ذلكَ لا يعني تجاهلَ حملاتِها وتأثيرَها على رأي الشارعِ وتوجّهاتِه. كما أنَّ التّهمةَ بالفسادِ تحتاجُ إلى المتابعةِ والتدقيقِ حتى لو أتت منْ فاسدٍ أو مرتبطٍ بمموّلين يناصبونَ شعبَنا العداءَ ويحاصرونَهُ. ولا يعيبُنا في شيءٍ أنْ نكشِفَ عن الفاسدينَ مهما بلغَ عدَدُهم ومهما علتَ مراتبُهم، فليسَ الخللُ في وجودِ الفاسدينَ الخاضعينَ لوَسوَسةِ شياطينِ أنفسِهم الأمّارةِ بسوءِ الإدارةِ والتعدّي على حقوقِ البسطاءِ، وإنّما الخللُ في السّكوتِ عنهم والتقاعسِ عن محاسبتِهم ونبذهِم من دائرةِ المسؤوليةِ ومن حاضنةِ الشّعبِ. وعلى الرّغمِ مما تقومُ به مؤسّساتُ الرقابةِ ومكافحةِ الفسادِ من عملٍ دؤوبٍ يترافقُ مع جهدِ الأجهزةِ الأمنيّةِ والقضائيةِ فإنَّ شعبنَا يستحقُّ مزيدًا من الشفافيّةِ وكفِّ أذى الفاسدين عنهُ، بغضِّ النَظرِ عن حجمِ الفسادِ ومَواطنِهِ، ففلسطينُ تستحقُّ أداءً أفضلَ وتواضعًا يصلُ حدَّ الرّكوعِ أمامَها وأمامَ نضالِ وصمودِ وتضحياتِ شعبِها.

 

*الفاسدُ لا يُحرّرُ وطنًا ولا يبني دولةً، وهو عدوُّ نفسِهُ وعبدُها، مثلما هو عالةٌ تتطفَّلُ على الشعبِ وتسرقُ قوتَ أطفالِه. ولأنّهُ كذلكَ فهو يستحقُّ أن نشيرَ إليهِ بأصابعِ اللعنةِ ونقولَ لهُ: أنتَ لسْتَ منّا.

 

١٢-١٢-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان