ياسر عرفات هو الزعيم الثَّوري الوحيد في العالم، الذي استقبلته الأمم المتحدة، وهو ليس رئيس دولة، وإنما قائدة ثورة.
كان عنوان خطابه التاريخي آنذاك: "لقد جئتكم حاملاً غصن الزيتون بيد، وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون الأخضر من يدي".
يا جماهير شعبنا الفلسطيني في كل أنحاء المعمورة ...
يا مَنْ واكبتم، وعايشتم، وتقاسمتم مع ياسر عرفات هذه المسيرة المفعمة بالشهداء، ونزيف دماء الجرحى، وعذابات الأسرى، والحصار بعد الحصار، والخروج أحياء أو شهداء، من مجزرة إلى مجزرة، وظلت راية الفتح مرفرفة إلى جانب العلم الفلسطيني، ولم نرفع في تاريخينا رايةً بيضاء، فنحن آمنا بأنها ثورة حتى النصر.
ونحن نحيي هذه الذكرى المباركة ذكرى استشهاد القائد الخالد في ضمائرنا أبو عمار، ياسر عرفات الذي كان رسول الثورة المجيدة، ثورة القدس والأرض المباركة إلى كل شعوب العالم التي انتصرت لنا، وساندت شعبنا، واعتزت براية العاصفة ترفرف تحت العلم الفلسطيني.
ونحن نحتفي بذكرى استشهاد الرمز ياسر عرفات نستذكر سيرته، وأمجاده، وانجازاته الوطنية والقومية والدولية، وكيف أسس أعظم حركة وطنية في أحلك الظروف، وأشدها تعقيداً.
إنَّ ياسر عرفات هو محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني، وقد ولد في القدس في 4/8/1929، وكان واحداً من عشرة أخوة، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية، وتأثَّر في بداية نشأته وطنياً بأستاذه ماجد الحلبي الذي أسس منظمة شبابية اسمها العاصفة، وكان يدرب هؤلاء الشبان عسكرياً وسياسياً، ورفع من مستواهم وذلك العام 1943. وهذا الاسم نفسه استخدمه الشهيد ياسر عرفات عندما تأسست حركة "فتح".
وفي هذه الفترة كانت عوامل القربى والوطنية تشده إلى الشهيد القائد عبد القادر الحسيني، الذي خاض معركة القسطل في القدس ضد العصابات الصهيونية، وكان أبو عمار إلى جانبه، ثم عينه مندوباً عنه في غزة، وهو لم يبلغ من العمر أكثر من ستة عشر عاماً، وعندما حمي وطيس المعارك في القسطل، توجه إلى الشهيد عبد القادر ووقف إلى جنبه. وبعد سقوط القدس عاد إلى قطاع غزة، ومن هناك غادر إلى مصر والتحق بالجامعة في القاهرة، ودرس مهندساً مدنياً، وانطلق من هناك في تأسيس أعظم وأهم حركة فلسطينية وطنية واكبها هو نفسه منذ البداية حتى تاريخ استشهاده.
فهو الذي أسس منظمة طلاب فلسطين العام 1952، والتي كانت مقربة من الأخوان آنذاك، وكان معظم رفاق دربه آنذاك يلتقون حول هذا الخيار، إلاَّ أنهم اكتشفوا بعد ذلك أن رؤيةَ ونمطية عمل الأخوان لا تنسجم مع مبادئ وأفكار حركة التحرير الوطنية، ومع حلول العام 1956 كان هو وأهم قيادات "فتح" التي برزت فيما بعد، قد بدأت بتشكيل إتحاد طلبة فلسطين العام 1954، ومن خلاله بدأ التحرك لتشكيل نواة حركة "فتح" العام 1956، ويومها شارك القائد والمهندس ياسر عرفات في التدريب العسكري لطلاب كلية الهندسة. ثم شارك مع الجيش المصري في سلاح الهندسة في تلك المعركة. وللإضاءة على أبرز جوانب مسيرة الشهيد الراحل نأتي على ذكر ما يلي، علماً أن سيرته تحتاج إلى موساعات للإحاطة بما تم إنجازه:
أولاً: من خلال الاتحاد العام لطلبة فلسطين تمكن أبو عمار بوعيه الوطني والسياسي، ومميزاته القيادية، أن ينظم ويُمتن العلاقة الأخوية والوطنية مع زملائه الطلاب في الجامعات، وفي المؤتمرات الطلابية الدولية والعربية، وتشكلت النواةُ منه ومن خليل الوزير، وصلاح خلف، وخالد الحسن، ومحمود عباس، وأبو يوسف النجار، وأبو صبري صيدم، وأبو علي إياد، وفاروق القدومي، وسليم الزعنون، وأبو ماهر غنيم وعبد الفتاح حمود، وباقي الثلة الوطنية الثورية القيادية. ومن هنا بدأت تتكون النواة الأولى للحركة في العام 1959، ووضعت الأُسس الفكرية، والتنظيمية، وبدأت تنمو وتتطور في ظل قيادة جماعية.
ثانياً: بدأت شخصية ياسر عرفات تتمايز منذ بداية العمل الحركي، واسم حركة "فتح" بدأ يبرز، وينتشر تدريجياً، وصدر أول بيان عن القيادة سنة 1959، وتم توزيع عدة نسخ منه خاصة في لبنان وسوريا والكويت والسعودية.
وبرزت شخصية ياسر عرفات في الزيارات التي تمت إلى الجزائر في العام 1962، وأيضاً بعدها الزيارة إلى الصين، وأهمها زيارة التعارف بين ياسر عرفات والرئيس جمال عبد الناصر من خلال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل المستشار الشخصي للرئيس عبد الناصر.
ومن خلال جمال عبد الناصر كانت الزيارة التي شارك فيها أبو عمار (باسم محمد رفعت) إلى روسيا. وهذه الزيارات وغيرها عززت دور حركة "فتح" والرئيس ياسر عرفات قبل الانطلاقة.
ثالثاً: من خلال رؤيته الصائبة والواقعية، استطاع الرمز ياسر عرفات أن يؤسس قاعدة فلسطينية وطنية، من خلال العاملين في الخليج وعائلاتهم، لتصبح فيما بعد، وعبر النواة التي شكلتها قيادات حركة "فتح" هناك، موقعاً سياسياً متقدماً لبناء علاقات قومية مع هذه الدول وشعوبها، وداعماً للنضال الوطني الفلسطيني. إضافة إلى أن هذا الوجود الفلسطيني وعلاقاته الخليجية أصبح يشكل مصدراً مالياً مهما لدعم نضال الثورة الفلسطينية وهذا ما ثبت عملياً فيما بعد.
رابعاً: لقد كان له الفضل في الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني عبر مسيرة الثورة الفلسطينية ومنذ تأسيسها في العام 1964 وكان رئيسها المرحوم القائد أحمد الشقيري، ومنذ انعقاد مجلسها الوطني الأول الذي كان المرحوم ياسر عرفات عضواً فيه، ويومها كانت المحاولات العربية الرسمية جادة للسيطرة على المنظمة، والتحكم بقراراتها، ومكوناتها، إلاَّ أنَّ الرمز ياسر عرفات تمكَّن من بناء القواعد الصلبة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وقواتها العاصفة التي أطلقت الطلقة الأولى في مسيرة الثورة الفلسطينية في 1/1/1965، وبدأ عصر المقاومة الفلسطينية، وحرب التحرير الشعبية لدحر الكيان الصهيوني من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
استمرت جهود ياسر عرفات ورفاق دربه في تعزيز بنية حركة "فتح"، وأصبح هو الناطق الرسمي باسم هذه الحركة الرائدة والمتصاعدة، وكانت الخطوة العملاقة في البنيان الوطني، هي التحام حركة "فتح"، وباقي الفصائل الفلسطينية آنذاك، في الجسم الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت حركة "فتح" هي العمود الفقري للمنظمة، وتمَّ اختيار مفجِّر الثورة أبو عمار رئيساً للمنظمة، والقائد العام لهذه الثورة الفلسطينية بدلاً من المرحوم أحمد الشقيري. وبدأ العصر الجديد للثورة بكل مكوناتها يشقُّ طريقه وسط التفاف وطني شعبي شامل، ووسط اندفاعية ثورية مقاومة للوجود الصهيوني، وفي ظل انتصار شامل، وفاعل لثورة الشعب الفلسطيني الوطنية المعاصرة، التي بدأت وما زالت تحفر عميقاً في التضاريس الجغرافية، والسياسية، والأزمات العسكرية، والأمنية، والاقتلاعية.
خامساً: عندما نقول الرمز ياسر عرفات، يجب أن نقرن ذلك بأنه رجل القرار الصعب، وهو الذي بحنكته، وحكمته، وتجربته الطويلة، وأفقه الواسع، كان يخرج من عنق الزجاجة ومعه ثورته، وشعبه إلى جانب التضحيات، لكنه لم يحدث في أي وقت أن رفع راية بيضاء. ففي معركة الكرامة 21/3/1968 التي فرضت على حركة "فتح" وهي في طور النشأة، والتي كانت غولدامئير ودايان يخططان لتصفية الوجود العسكري الفلسطيني شرق نهر الأردن، واعتقال القيادة الفلسطينية، إلاَّ أن ياسر عرفات ومعه رفَاقُ الفتح كانوا من أصحاب قرار المواجهة العسكرية، مهما كانت التكلفة، لأنه لم يمض بعد على هزيمة حزيران 1967 أكثر من تسعة شهور، وكانت الكرامة معركة الصمود والتحدي، وتحطيم الحلم الصهيوني بإزالة الثورة التي استمرت به، وانتصر الجيش الأردني آنذاك بقيادة مشهور حديثة الذي قدَّم المساندة العسكرية للثورة في الكرامة، عبر القصف المدفعي، وانتصرت الثورة، وانطلقت حركة "فتح" الرائدة من جديد، بعد أن انضمَّ إلى صفوفها الآلاف من أبناء شعبنا من المخيمات، ومن الجامعات، ومن مختلف الشرائح. وهكذا هزم ياسر عرفات هزيمةَ حزيران (النكسة) بانتصار معركة الكرامة.
سادساً: لا نستطيع التحدُّثَ عن سيرة الرمز ياسر عرفات، من دون أن نتحدث عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، والذي هو من أبرز مقومات انتصار واستمرار الثورة الفلسطينية، والمحافظة على كرامة الشعب الفلسطيني، والامتحانات التي مرَّ بها أبو عمار في هذا المجال كانت متعددة، ومعقَّدة، وشائكة، وكانت التحديات مصيرية، ولكنَّ ياسر عرفات بأفقه السياسي، ووعيه الوطني، وإرادته الصلبة، استطاع أن يصل إلى بر الأمان. ولعلَّ المثلَ الأبرز والأخطر كان حصار المنظمة في جنوب لبنان.
في بعد الاجتياح الإسرائيلي، حيث كان الهدف الصهيوني المعلن، هو تدمير البنية التحتية العسكرية وغير العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والبنية السكانية للمخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني، وتشريد الأهالي شمال نهر الأولى، وتهجيرهم لضمان الأمن في الجنوب اللبناني بعيداً عن التواجد الفلسطيني العسكري والمدني. إلاَّ أن المخيمات الفلسطينية أُعيد بناؤها وانتعشت كما كانت سابقاً. وسقط المشروع الصهيوني خاصة بعد انتصار المقاومة في العام 2006، وتحرير الجنوب .
سابعاً: لقد كان الامتحان الأشد تعقيداً، وحساسيةً، والأخطر وجودياً، وسياسياً على منظمة التحرير الفلسطينية، هو مسلسل الضغوطات الأمنية والسياسية التي هددت وجودَ ووحدةَ المنظمة، وأيضاً حركة "فتح"، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي، والانقسامات الداخلية الفلسطينية، والصراعات التي طالت المخيمات، وخاصة منطقة شمال لبنان.
إنَّ المسؤولية الوطنية دفعت الرئيس الرمز ياسر عرفات، أن يغامر ويأتي بحراً رغم كل المخاطر، كي يستطيع تعزيز الموقف الداخلي لحركة "فتح"، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وحماية وجودها، وإنقاذها من مخاطر التصفية. وهكذا تواجد الشهيد الرمز ياسر عرفات في منطقة طرابلس – الزاهرية، وأعطى توجيهاته، كما أنه بذل جهوداً سياسية، ودبلوماسية، ووطنية، وخاصة مع فرنسا لإخراج القوات العسكرية وعائلاتهم، والقيادات الأولى التي جاءت من الخارج لتكون إلى جانبه في هذه المعركة السياسية الخطيرة، ومنهم الأخوة الشهداء خليل الوزير، وأبو الهول، وزياد الأطرش. إضافة إلى الأخ المناضل الأسير فؤاد الشوبكي، وعلي أبو طوق وغيرهم. وبعد معاناة ومخاطر، وصمود مكلف تمكَّن الشهيد أبو عمار أن يحمل "م.ت.ف" على كتفيه إلى الخارج ليحمي وجودها، ويعيد إليها الحيوية السياسية، والنشاطات التنظيمية، وإجراء الترميمات المطلوبة، وعادت المنظمة إلى حيويتها لاستكمال مسيرة الشعب الفلسطيني.
ثامناً: من الجدير ذكره أنَّ المحطةَ الأبرز في تاريخ ياسر عرفات، الذي اكتسب رمزيته من خلال مواقفه التاريخية والمشِّرفة، هو الموقف السياسي والوطني الفلسطيني الحاسم الذي عبَّر عنه الرئيس بوجه بيل كلينتون الرئيس الأميركي، وهو الذي دعا الرئيس الفلسطيني، ورئيس الوزراء الصهيوني ايهودا باراك إلى ساحة كامب ديفيد في واشنطن مع وفده، وأيضاً ياسر عرفات مع الوفد الفلسطيني، والانقطاع عن العالم لمدة أسبوعين حتى يتم التوصل إلى حلول متفق عليها بين الجانبين. وبعد ممارسة الضغوطات الهائلة على الوفد الفلسطيني للموافقة على إلغاء العودة إلى الأرض الفلسطينية، وإلى الاقرار بأن القدس هي مدينة مفتوحة للطرفين، وبعد مضيِّ أسبوعين أيقنَ الرئيس الفلسطيني بأن هناك مؤامرة مشتركة بين بيل كلينتون وباراك لتصفية الحقوق الوطنية الأساسية.
فأخذ أبو عمار القرار بإنهاء المشاركة في هذه القمة، وقال قولته المشهورة: قُطعت يميني إنْ وقعت على حرمان أي لاجئ فلسطيني من العودة إلى أرضه، أو إن تنازلتُ عن حبة تراب من تراب القدس.
ثم عاد رحمه الله إلى قطاع غزة، ومنها إلى رام الله ليخوض غمار الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى في 28/9/2000 ثم يُحاصَرُ، ويُقصف مكان إقامته، وحصاره في المقاطعة، ثم ليدسّوا له السُمَّ الصهيونيَّ للتخلص منه، لكنه اليومَ، يرتاح في قبره في رام الله على أرضه، وقريباً جداً من القدس التي كان يتمنى أن يُدفَن فيها.
رحل الشهيد الرمز ياسر عرفات مطمئناً، لكنَّه ظلَّ خالداً في أعماقنا، وقلوبنا، وعقولنا، وأجيالنا المتتالية.
رحمك الله يا شهيدنا الرمز الخالد... كن مطمئناً وأنت في جنان الخلد، بأن الله سبحانه أنعم علينا برفيق عمرك، وكاتم أسرارك، والمؤتمن على ثوابتك، بأن يقود المسيرة بعدك بكل جرأة، وأمانة، وهو يتسلَّحُ بتاريخك، وجرأتك ومصداقيتك، والرئيس أبو مازن هو الذي قال على الملأ: "أنا لستُ ياسر عرفات، فهو الرمز، ولكنني أَعدكم بأنني سأكون مؤتمناً على ثوابته الوطنية".
المجد والخلود في جنات النعيم للشهيد الرمز ياسر عرفات، والمجد وجناتُ الخلود لشهدائنا الأبرار، والعزة والحريةُ لأسرانا البواسل، والشفاء لجرحانا الذين قدموا دماءهم مداداً لكتابة تاريخنا، والمجد والعزةُ والنصر والكرامة لشعبنا الفلسطيني.
إنهاء لثورة حتى النصر
قيادة حركة "فتح" في لبنان
إعلام الساحة
2019/11/9
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها