عاشت الإمبراطوريةُ العثمانيةُ في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشر وبدايةِ القرن العشرينَ مرحلةَ الانهيارِ والتفكّكِ التدريجيّ الذي عجّلتْ به وتوّجتْهُ الحربُ العالميةُ الأولى، حيثُ انهارت دولةُ العثمانيّين وتقاسمتْ بريطانيا العظمى وفرنسا الجزءَ الأهمَّ من مكوّناتِها، وهو الوطنُ العربيُّ، وخاصّةً بلادُ الشّامِ ومركزُها -فلسطين. وقد استخدَمَ المؤرّخونَ مصطلَحَ "الرّجلِ المريضِ" لوصفِ حالةِ الدّولةِ العثمانيّةِ الآيلةِ إلى السقوطِ، وهي الفترةُ التي شهدتْ تنامي النزعةِ الإستقلاليّةِ في الأقطارِ العربيّةِ بما حملتهُ من بلورةِ فكرةِ القوميّةِ العربيّةِ التي تستندُ إلى مفهومِ تمايزِ الأمةِ العربيةِ عن سواها وحقِّ تلك الأمةِ بالإستقلالِ عن "دولةِ الخلافةِ" التركيّة.
تزامنَت حقبةُ "الرجلِ المريضِ" أيضاً مع تنامي المشروع الصّهيونيّ في فلسطينَ والذي جنّدتْ بريطانيا كلَّ امكانياتِها لتنفيذهِ على الأرضِ، ولذلك سارعتْ مع نهايةِ الحربِ الكونيّةِ الأولى إلى اتخاذِ اجراءاتٍ تساعدُها في تطبيقِ هذا المشروع، فقد عقدتْ اتفاقيّةَ سايكس-بيكو مع فرنسا لتقاسُمِ ما تمّ انتزاعُهُ من المناطقِ التي كانت جزءاً من الامبراطوريةِ العثمانيّةِ، وأصّرتْ بريطانيا على ان تكونَ فلسطينُ وشرقُ الأردنّ من نصيبها، ثم اتبعتْ ذلك باصدارِ وعد بلفور الذي وضعَ تنفيذَ المشروعِ الصهيونيِّ في فلسطينَ في مقدّمةِ أولويّاتِها، وهو ما تمّ تحديدُ الإطار القانونيِّ له من خلالِ منحِ عصبةِ الأممِ حقَّ الإنتدابِ في فلسطينَ لبريطانيا، بكلّ ما تبعَ ذلكَ من سياساتٍ بريطانيّةٍ كانت نهايتَها إقامةُ الدولةِ الصهيونيةِ في فلسطين وتشريدُ أصحابِ الأرضِ الشرعييّن وحرمانُهم من حقّهم الطبيعيِّ بتقريرِ المصيرِ والاستقلالِ الوطنيّ.
هكذا كانت نهايةُ الامبراطوريةِ العثمانيةِ التي يحاولُ اردوغان إعادةَ إحيائها بتدخّلهِ العسكريِّ في منطقةِ شمالِ شرق سوريا، وهو في ذلكَ يستغلُّ حالةَ "الرّجلِ المريضِ" التي اصبحت الآنَ ملازمةً لوصفِ الوضعِ في الدّولِ العربيّةِ. وليست سوريا الدّولةَ الوحيدةَ التي تحاولُ تركيا من خلالِها مدَّ نفوذِها وتوسيعَ دائرةِ المنطقةِ الخاضعةِ لتدخّلاتِها وعبَثِها، نشهدُ ذلكَ في ليبيا ومصر وقطر وفلسطين وغيرِها، ناهيكَ عن التبنّي التركيِّ لحركةِ الإخوانِ المسلمينَ بكلِّ امتداداتِها في الوطنِ العربيّ واستخدامِها كأداةٍ لزعزعةِ الأوضاعِ الدّاخليّةِ والترويجِ لتركيا واعتبارِها قدوةً سياسيّةً واقتصاديّةً وثقافيّةً على حسابِ الشخصيّةِ العربيةِ المستقلّةِ التي ترسّخت على أنقاضِ الامبراطوريةِ العثمانيّة. وما نشهدُهُ الآنَ من غزوٍ تركيٍّ لسوريا هي محاولةٌ لإعادةِ الهيمنةِ التركيةِ في الوطنِ العربيّ، وهي محاولةٌ تحظى بدعمِ إدارة ترامب وتتماشى مع المصالحِ الغربيةِ الهادفةِ إلى تكريس نتائج الحروبِ الأهليةِ في الدولِ العربيةِ لتعيدَ رسمَ الخرائطِ والحدودِ بما يتجاوزُ حدودَ سايكس-بيكو وبما يخدمُ تكريسَ المشروعِ الصهيونيِّ في فلسطين.
*الواجبُ الوطنيُّ والقوميُّ يستدعي رفضَ العدوانِ التركيِّ ضدّ سوريا والتصدّي لهُ، لأنّ السّكوتَ عليهِ سينتهي بنتائجَ كارثيّةٍ لن تتحمّلها سوريا ووحدتُها الجغرافيةُ فقط، وإنما ستشجّع الآخرينَ وأولُّهم دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليِّ على التمادي في سياستِها العدوانيةِ تجاهَ الأمّةِ ومقدّساتِها.
١١-١٠-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها