أعلنت شركة فيسبوك في شهر نيسان/أبريل الماضي إمكانية تغريمها بمبلغ يتراوح ما بين ثلاث إلى خمس مليارات دولار أمريكي من قبل لجنة التجارة الفدرالية الأمريكية، بسبب قضايا تتعلق باتهام الشركة بانتهاكات للخصوصية أو التواطؤ في عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية مستخدميها.
أثار هذا الإعلان جملة من التساؤلات الأخلاقية والقانونية المهمة حول حماية البيانات الشخصية للمستخدمين من توظيفها لأغراض سياسية. فيسبوك تتعرض الآن لأزمة تعصف بسمعتها وتؤثر على علامتها التجارية البارزة في العالم، وأهمية ومحورية الشركة فيما يتعلق بمفهوم الاقتصاد الرقمي.
بالاستناد إلى ما يعرف بالرأسمالية المتأخرة، التي تأتي متوافقة مع المجتمع المعلوماتي، لتصبح هي بحد ذاتها الحقبة المدفوعة بالمعلوماتية والمتميزة بالتقنية العليا التي تنتج خدمات من خلال تعاملها مع الرموز والأوامر بواسطة اللغة كما في استعمال الحواسيب والبرمجيات الذكية، التي تتنبأ بالسلوك البشري والترقيم التقني الذي يولّد بدوره أوهامًا واقعية؛ فإننا بإسقاط هذا الطرح على فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا المتخصصة في تحليل بيانات مستخدمي السوشيال ميديا، سنتمكن من فهم المعضلة بصورة جلية.
بدأت الفضيحة قبل حوالي عام تقريبًا، عندما ظهرت على السطح مؤشرات واقعية حول كيفية استغلال كامبريدج أناليتيكا بيانات نحو 57 مليون علاقة صداقة على فيسبوك، وتوظيفها للتأثير في سلوكهم السياسي تجاه الاستفتاء البريطاني للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تلاعبها بالجمهور لانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تفاصيل هذه الفضيحة كُشفت عندما جاءت نتائج الاستفتاء البريطاني حول الخروج من الاتحاد الاوروبي صادمة ومخالفة للتوقعات، ما أثار فضول الصحافة لمعرفة أسباب ذلك، فقامت الصحفية البريطانية "Carola Cadwallad"، بإعداد تقرير صحفي للغارديان من إقليم ساوث ويليز لتجد أن نسبة التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بلغت حوالي 62%، متجاوزة باقي المناطق البريطانية.
هذا الأمر أثار فضول الصحفية بشكل لافت لمعرفة الأسباب التي دفعت المنطقة للتصويت لصالح الخروج، بالرغم من استفادتها اقتصاديا من بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، خاصةً أنها حصلت على عشرات ملايين الجنيهات للتطوير والإنماء.
عندما بدأت الصحفية بإعداد تقريرها ومقابلاتها مع المواطنيين، أكدوا على عدم استفادتهم من وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وأنهم يعانون من الآثار المترتبة من وجود المهاجرين واللاجئين، وخصوا الأتراك بالذكر، وهو أمر مغلوط تمامًا، لاسيما في تلك المنطقة.
تابعت الصحفية تقصيها، حتى أخبرتها سيدة عن حجم المواد الإعلامية المخيف التي تروج لخطورة بقاء المهاجرين الأتراك، والتي تعرضت لها السيدة نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا فيسبوك.
عادت الصحفية إلى فيسبوك، لكنها لم تجد مثل تلك المواد التي أخبرتها عنها السيدة، الأمر الذي حضّر تساؤلات عدة في ذهنها، خاصة أنه لا يوجد أرشيف متاح على فيسبوك.
هذا الأمر يحمل في طياته إذًا إمكانية تعرضك كمستهدف لمادة إعلامية دون غيرك، بالرغم من قرب الجغرافي، ولمرة واحدة دون أن تتمكن من الرجوع إلى هذه المادة مرة أخرى، أو صعوبة ذلك على الأقل، لافتقاد فيسبوك لخاصية لبحث الأصيل، ولعدم امتلاك الآليات لقياس أو معرفة من تعرض لرسائل إعلامية محددة، وطبيعة هذه الرسائل، وما هي طبيعة البيانات التي استُخدمت لتوجيه هذه الرسائل، وكيفية تحديد طبيعة الجمهور المستهدف بشكل مقصود ومتعمد بهذه الرسائل الإعلامية وماهية مضامينها.
إذًا ما تم على فيسبوك بقي خفيًا في فيسبوك، لذلك يصعب على أي باحث استقصائي معرفة تفاصيله بسهولة، فما تم تحديدًا في البريكست، تمت إدارته في الخفاء دون إدراك واقعي من قبل الجمهور لحقيقة ما جرى ويجري بشأن توجيههم ودفعهم لاتخاذ قرارات تجاه سلوكيات سياسية أو اجتماعية تتعارض مع المعطيات والحقائق الواقعية.
تم ذلك من خلال تحليل بياناتهم الخاصة والشخصية من خلال التعرف على هوياتهم واهتماماتهم ورغباتهم وأذواقهم واختياراتهم، ثم تصميم رسائل إعلامية تتوافق وتوجهاتهم عبر نشاطهم على فيسبوك.
وشركة فيسبوك هي الوحيدة التي تعرف تحديدًا من نشر ماذا، وما هو حجم التمويل الذي صرف على الإعلانات والحملات السياسية، وجنسية الناشر ودوافعه، بالإضافة إلى حجم التأثير المترتب على مستخدمي فيسبوك من قبل الجهة العاملة على استهدافهم، وما هي دوافعها السياسية.
ومع ذلك رفضت الشركة ولا زالت ترفض الإفصاح عن هذه التفاصيل، الأمر الذي يفتح جملة من التساؤلات حول انتهاك خصوصيات مستخدمي فيسبوك وتوظيف بياناتهم لأغراض سياسية.
الجريمة المزدوجة التي وقعت باستخدام فيسبوك خلال الاستفتاء الذي تلاعبت به شركة تحليل البيانات كامبريدج أناليتكا، تتمثل في أنه في بريطانيا يتم تحديد حجم المال المستخدم في الحملات الانتخابية وفق قوانين وأنظمة سارية، وذلك لتعزيز الشفافية والمساءلة في الحملات الانتخابية، وتحقيق النزاهة في بنية النظام السياسي البريطاني، الأمر الذي يصطدم بنيويًا وجوهريًا مع ما حدث في عملية التلاعب بالجمهور من قبل كامبريدج أناليتكا عبر شركة فيسبوك، كون التأثير على نتيجة الاستفتاء تم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، دون معرفة حجم المال الذي أنفق على هذه الحملة عبرها، والتي باتت "صناديق سوداء" مغلقة أمام الحكومات والشعوب بشكل عام.
تهدد هذه التدخلات مستقبل الديمقراطية برمته في دول من المفترض أنها تميزت بها، وذلك بفعل ما توصل إليهالذكاء الاصطناعي القائم على تحليل البيانات وتصنيفها وتحليلها وفق معايير محددة لخدمة أهداف سياسية معينة.
إن الإعلام الرقمي الحديث الذي بدا في الوهلة الأولى شيئًا مذهلًا، بات اليوم أحد ساحات الجرائم التي تهدد قيم الديمقراطية، فقد تخط بطريقة سريعة الإطار القانوني القائم في الوضع الطبيعي، كما توضح المعضلات الماثلة أمامنا اليوم. ولم يعد بالإمكان أن نقول إنه سيتم تدارك وتحسين ذلك مستقبلًا، لأنه لا يوجد ما يشير لعدم تكرار هكذا أزمات، فنتائج البريكست شكلت ضربة موجعة للديمقراطية البريطانية، لكون الأزمة أعمق من إعلانات ومواد إعلامية مكشوفة وموجهة، بل هي منظومة تقوم على الأكاذيب والتخويف والتهويل، والتمويل بطريقة غير قانونية.
فلسطينيًا، وقعنا ضحية سلسلة من الأخبار المزيفة ذات المصادر المجهولة، خاصة فيما يتعلق بما يعرف بـ"صفقة القرن". فقد نشر كم ضخم من المواد الإعلامية التي تتحدث عن هذه الصفقة، دون تدقيق أو تحقق من المصادقية، وانتشرت على نطاق واسع باعتبارها الحقيقة.
والظاهر أن الغاية من نشر مثل هذه المواد الإعلامية كان رصد ردود الفعل حول قضية سياسية معينة، وأخذ انطباعات عن ردات الجماهير، أي أنها ربما تمثل بالونات اختبار.
ما زالت التحقيقات مستمرة بشأن كيفية الحفاظ على خصوصية مستخدمي السوشيال ميديا وفيسبوك تحديدًا، مع حوار عالمي حول كيفية التعاطي مع سرعة التطور التكنولوجي في كافة القطاعات، وانعكاساتها على الإعلام الرقمي.
وما يحدث من تفاعل وتطور رقمي على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل السلطات الثلاثة: التنفيذية، والتشريعية، القضائية، في موقع متأخر نسبيًا عما يستجد من قضايا ومعضلات حقيقية تؤثر على كافة مناحي الحياة، بما فيها سلوكياتنا كبشر سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

بقلم: عمّار جمهور