إنَّ الحديث عن المستقبل القريب، والتَّوقعات التي تحمل الكثير من المفاجآت، يستوجب التَّوقف عند بعض المحطات المفصليَّة، كما يستوجب الشموليَّة في العمليَّة التقييمية، والاستفادة من تجارب الماضي.

لا شك أنَّنا اليوم كفلسطينيين بكل فصائلنا، وقوانا، وأبناء شعبنا في الداخل والشَّتات، أمام الإمتحان الأصعب، والتَّحدي الأكبر، والمطلوب تحديد الخيارات. وهذه التَّحديات لا تعترض الجانب الفلسطيني وحده، وإنما الفريق العربي كجامعة عربيَّة، وكمغرب عربي، وخليج عربي، فالجميع سيخضع للإمتحان الصعب، وعليه أن يتحمل مسؤولياتِ ردوده ومواقفه.

وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة في المعالجة، علينا أن نذكِّر بأنَّ التحالفات الدوليَّة والمحوريَّة كلها على المحك، لأنَّ مواقف الدول الإسلاميَّة والأوروبيَّة، وأميركا اللاتينيَّة، ودول عدم الانحياز كلها اليوم معنية بأن تقول كلمتها بخصوص القضايا الجوهريَّة، والمصيريَّة للمنطقة وللعالم، وعليها أن تجيب على مجموعة من الأسئلة المحرجة بكل وضوح، لأنَّه لا مجال للإختباء، فالنار مشتعلة، والحريق سيمتد، ومن أَشعلَ عود الثِّقاب يعتقد أنَّه سيكون بمنأى عن اللَّهيب والدمار.

ولا نبالغ إذا قلنا أنَّ مسيرة الأمم المتحدة الطويلة والشائكة، والتي إنطلقت وتكاملت بعد حربين عالميتين راح ضحيتها ملايين من البشر، وتمَّ وضع هذه القوانين، والمواثيق، والشَّرائع الدولية، وأُسِّست منظمات حقوق الإنسان، كل هذا الجهد هو اليوم في خطر، وهذه المواثيق بكاملها أصبحت مهددة بالتَّلاشي وتكريس مفاهيم وقوانين وأنظمة تتناسب مع مصالح الحركة الصهيونية أولاً، ثمَّ مع مصالح الدول الكبرى التي حاولت الذهاب باتجاه الأنظمة الديموقراطية، لكنها اليوم تقف مترددة أمام الخيارات الجديدة التي تفرضها واشنطن، وتريد العودة بالعالمِ كله إلى الوراء، إلى زمن الأمبريالية الدولية، والاستعمار البغيض الذي نكَّل بكل شعوب العالم، واكتوت بنار الظُّلم إلى أن نالت حريتها واستقلالها، بعد أن قدَّمت أبناءها ضحايا على مذبح الحريَّة.

والشَّعب الفلسطيني الوحيد في العالم الذي لم ينل حريته واستقلاله بعد بسبب الاستعمار الصُّهيوني، المتجسِّد بالكيان الإسرائيلي، والمدعوم بكل طاقات وقدرات وخبرات الولايات المتحدة عسكرياً، وسياسياً، وأمنياً وإقتصادياً، بحيث أصبح على الشَّعب الفلسطيني أن يواجه منفرداً وهو تحت الاحتلال، وفي أًصعب الظروف، أن يواجه ليس فقط العدو الإسرائيلي، وإنَّما أيضاً العقلية والقدرات العسكرية والاقتصادية التي يجسدها القرار الرئاسي والحكومي الأميركي.

ونحن نشكر الكثيرين من أبناء الشَّعب الأميركي الذين يقاطعون الكيان الإسرائيلي، ويرفضون سياساته العنصرية، وسلوكه الإرهابي والدموي بحق شعبنا الأعزل من السلاح.

الإرهابي الدولي الأول دونالد ترامب الذي رَهَنَ موقعه الرئاسي لخدمة الأهداف الصُّهيونية، وتدمير المؤسسات الدولية وشطْب مواثيقها، وتغييب دورها، وإعطاء الفرصة الذهبيَّة لنتنياهو وفريقه الصُّهيوني لاستخدام العنف، والإرهاب المعهود لارتكاب المجازر بحق الشَّعب الفلسطيني المتمسِّك بأرضه منذ فجر التاريخ، وإتاحة الفرصة لجيش الاحتلال الصُّهيوني، لممارسة كل ما يحلو له من عمليات القتل، والإعدامات المباشرة، وزج الأبرياء من الفتيات القاصرات، والفتيان الصغار، ومن النسوة اللَّواتي حملْنَ أعباء اللِّجوء والتَّشرد، والظلم، والمآسي.

وجيش الاحتلال الذي ارتكب مجازر صبرا وشاتيلا، وجنين، ورفح هو نفسه الذي يستقوي على شعبنا في فلسطين اليوم بالقرار الأميركي ليذبح شعبنا، ويشرده، ويستعمر أرضه، ويعتقل أطفاله.

ويجري ذلك كله أمام كل الحكومات والدول والمؤسسات والهيئات، ومحاكم العدل الدولية، والجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، وأمام كل الأمم وخاصة الأمة العربية والإسلامية، فما الذي يجري؟! وهل سيبقى العالم بأسره ينتظر المزيد من الإجراءات والقرارات الأميركية دون إعتراض على الهمجيَّة التي يتعمدها ترامب من موقعه لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة.

وهل يرضى العالم المتحضِّر أن تقوم أقوى دولة في العالم وبدوافع عنصريَّة عدائيَّة وحاقدة من تدمير حق الشَّعب الفلسطيني في تقرير مصيره حسب الشَّرعية الدوليَّة تلبيةً لرغبة الكيان الإسرائيلي؟!!

ألا يتذكر العالم بكل مكوناته أنه هو بمؤسساته داس على حقوق الشَّعب الفلسطيني وكرامته الوطنيَّة والإنسانيَّة العام 1947، وسرق الجزء الأكبر من أرضنا التاريخيَّة فلسطين، وأعطاها ظلماً وعنوةً إلى الحركة الصُّهيونية، لتقيم دولةً استعماريةً لشذاذ الآفاق من الجماعات اليهوديَّة التي طردتها المجتمعات الأوروبية وتخلَّصت منها ومن خبائثها، ومؤامراتها، وألقت بهذه الجماعات المتصهينة على أرض فلسطين، لإستثمار وجودها في ضرب الاستقرار في المنطقة العربيَّة، وتجزيء الوطن العربي، وإشعال الفتن المذهبيَّة، والطائفيَّة، والإثنيَّة، والصراعات الداخليَّة المدِّمرة.

إنَّ الموقف الدولي الصامت والعاجز حتى الآن عن اتخاذ قرارات، أو إجراءات رادعة، أو القول لترامب وفريقه كفى إرهاباً بحق الشَّعب الفلسطيني! كفى تدميراً للقضيَّة الفلسطينيَّة! كفى تجاهلاً للرأي العام الدولي! كفى سفكاً لدماء الأبرياء! كفى تخريباً في عالم الإنجازات البشريَّة التي تحققت على أيدي القادة الشرفاء! فإن العالم يكون قد أعفى نفسه من تحمل هذه المسؤوليات الاستراتيجية، وترك الهمَّ كله على عاتق الشَّعب الفلسطيني الذي يعيش تحت أطول وأسوأ احتلال في العالم كله، والوقائع تَشهد على ذلك.

نحن كفلسطينيين إبتداء من سيادة الرئيس محمود عباس وحتى أصغر شبل وزهرة سنبقى المدافعين عن مقدساتنا، وأرضنا المباركة حتى لو تخلَّى عنا الكثيرون، لأنَّنا عندما انطلقت ثورتنا أقسمنا أن نواصل المسيرة، وتعلَّمنا من الرمز ياسر عرفات أنَّ العهد هو العهد، وأنَّ القسم هو القسم، وأن الثَّورة وجدت لتبقى وستبقى بإذن الله. وتعلَّمنا من ياسر عرفات أبو عمار الختيار، ومن الرئيس أبو مازن بأنَّ شعبنا هو شعب الجبارين، وأنَّ القدس عاصمةُ دولتنا، وأننا حماةُ الأقصى وكنيسةِ القيامة، والإسراء والمعراج ومهد المسيح، وأننا لن نقبل بدولة على قطاع غزة، فالدولة على أرضنا الفلسطينيَّة.

ونحن ندعو العالم كي يتعظ، ويأخذ العبرة من شعبنا المتمسِّك بالأرض، والاستشهاد عليها، والتَّضحية من أجل كرامتها.

فعهد التميمي في المعتقل الصُّهيوني تكابد الأمرَّين، وترفض الاعترافَ مقابلَ نيلِ حريتها، لأنَّ حرية واستقلال فلسطين أعظم من حريتها.

وإبراهيم أبو ثريا المبتور الساقين اجتاز كل الخطوط الحمر ليواجه المحتل بصدره العاري، وتخترق الرصاصاتُ صدره، لكنها رسالة إلى ترامب بأنَّنا أقوى من المؤامرة، وإسراء الجعابيص الأسيرة التي واجهت وصبرت على كافَّة أنواع القمع والتَّعذيب، أيضاً أكَّدت بأنَّ هذا الشعب لا يخضع ولا يركع.

وكانت الوقفةُ التَّاريخية لأحمد نصر جرار، وابن عمه أحمد إسماعيل جرار بوجه الجَّيش الاسرائيلي بدباباته وآلاته، وأحقاده، وعنصريته، وكانت لحظات التَّحدي في جنين في اليامون، والمطاردة من بيت إلى بيت، تمكَّن الجيش الصُّهيوني بكل عتاده وعديده أن يدمر المبنى على الشَّهيد أحمد نصر جرار، وأن يعدم بالرصاص أحمد إسماعيل جرار.

وفي الخليل في حلحول، وفي نفس الوقت كان الشبان يتصدُّون لجيش الاحتلال فاستشهد الشَّاب حمزة يوسف زماعرة، وأيضاً استشهد خالد وليد تايه في نابلس. وأحمد جمعة أبو عبيد في كفل حارس وهو الذي نفَّذ مهمته، وتمت مطاردته، واستشهد برصاص الاحتلال. هذه المواقف المشرِّفة، وأيضاً الأسيرات والأسرى يشكلون رسالة واضحة إلى ترامب تقول له: "من يلعب بالَّدم الفلسطيني إنَّما يلعب بالنَّار التي ستحرقه".

عضو المجلس الثَّوري لحركة "فتح"

الحاج رفعت شناعة