عرفت أبو عمار عن كثب طوال خمسة وعشرين عاماً، كان لقائي الأول به في الأردن عندما قمت في إثر معركة الكرامة بزيارة الأغوار على رأس وفد طالبي كتائبي عام 1969.

وكان آخر لقاء لي معه في تونس عام 1994 قبيل توقيعه اتفاق اوسلو وانتقاله إلى رام الله، غير إني بقيت على  تواصل معه عن بُعد حتى وفاته عام 2004.

حياته لغز، ووفاته لغز لم يكشف عنه إلا قبل أيام حين أعلن معهد لوزان أن ياسر عرفات قضى مسموماً بمادة "البولونيوم"، فتحققت أمنيته بأن يموت شهيداً وليس مريضاً، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أن تَدَّعي على إسرائيل أمام المحاكم الدولية المختصة.

حياة أبو عمار ليست لغزاً فحسب، بل هي مغامرة مستدامة في معركة أيلول 1970، نجا من الجيش الأردني بالحيلة. وفي نيسان 1973 اغتال كومندوس إسرائيلي في بيروت ثلاثة من كبار قادة "فتح" كمال عدوان، وكمال يوسف، وأبو يوسف النجار، لكنه لم يتمكن من أبو عمار، وفي اجتياح لبنان عام 1982 أفلت 13 مرة من محاولة اغتياله من قبل ارييل شارون عام 1983، أطبق عليه الجيش السوري في شمال لبنان وبقاعه لكنه اختفى عن الأنظار في اللحظات الأخيرة.

عام 1991 دمر الطيران الإسرائيلي مقره في تونس قبل وصوله إليه بدقائق قليلة عام 1993، نجا بأعجوبة حين سقطت طائرته في الصحراء الليبية، هو الرئيس الوحيد الذي تسقط طائرته ويخرج منها حياً.

أفضل صورة تختصر في ذاكرتي شخصية ياسر عرفات هي يوم وقوفه في 13 تشرين الثاني 1974 للمرة الأولى على منبر الأمم المتحدة ليعلن على العالم: أحمل البندقية بيد وغصن الزيتون بيد، فلا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي.

هذا النداء يلخص سيرة حياته، هو صاحب الخيارات الصعبة والمتناقضة التي طرحها على نفسه وعلى العالم، انه شخصية مركبة، رجل الحرب والسلام، رجل الاعتدال والتطرف، فاوض على اتفاق أوسلو ودعم حركة الانتفاضة، عارض اتفاق كمب دايفيد الذي وقعه الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل عام 1978 لكنه لم يقطع العلاقة مع مصر كما فعل بعض الرؤساء العرب.

صمد أمام الحصار الإسرائيلي في بيروت عام 1982 أطول مما كان يتصور ارييل شارون غير انه انسحب ومقاتليه في اللحظة المناسبة على متن باخرة فرنسية. اختار تونس محل إقامته بديلاً عن بيروت، لكنه ظل يتابع كل شاردة وواردة في لبنان وقد قال لي قبل سنوات من خروجه القسري: خسرنا القدس مرة، فإذا خسرنا بيروت نكون قد خسرنا القدس مرتين.

عند لقائي به للمرة الأخيرة في تونس قبيل توقيعه اتفاق اوسلو وانتقاله للإقامة في رام الله، اخرج من جيبه ورقتين تتضمن كل واحدة منها سبع نقاط وسألني: إذا خيرت بين هاتين الورقتين ماذا تختار؟ قرأتهما وقلت له: إنهما متقاربتان لكني أفضل الثانية على الأولى، هز رأسه موافقاً وقال لي: الورقة الثانية هي العرض الإسرائيلي، والورقة الأولى هي العرض الأمريكي، صحيح أنَّ لا حل مع إسرائيل من دون الوساطة الأميركية، لكن الصحيح أيضاً أن واشنطن تتصرف وكأنها إسرائيلية أكثر من الإسرائيليين.

ويبقى السؤال الأهم: هل أخطأ أبو عمار أو أحسن عند توقيعه "اتفاق اوسلو"؟ الجواب عند الرئيس محمود عباس الذي ما زال يتمسك بتصميم وحنكة بمبدأ حل الدولتين بما يعني دولة  فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، ومع فارق الظرف والشخصية والمعادلات الإقليمية والعالمية يتقاطع مشروع أبو عمار ومشروع أبو مازن عند ثلاث نقاط: الدولة والقدس وحق العودة.

وأصل إلى السؤال الأكبر: ماذا بقي من أبو عمار؟ وجوابي انه على الرغم من كل أخطائه وانتكاساته وتورطه في حرب لبنان وويلاتها، يبقى قائد الثورة المسلحة، وصاحب القرار الفلسطيني المستقل، ورمز القضية الفلسطينية، أطلق عليه الفلسطينيون تسمية "الوالد" وهو عن حق أب القضية والثورة والدولة السلام له حيث هو والسلام عليكم.

بيروت 10/11/20313