تزامنت الذكرى التاسعة لاغتيال قائدنا ومفجر ثورتنا الفلسطينية المعاصرة الشهيد ياسر عرفات، مع صدور نتائج تقرير لجنة التحقيق الروسية والسويسرية، والذي أكد أن أبا عمَّار لم يمت بسبب تقدم العمر، أو المرض، وإنما مات بمادة البولونيوم السامة، وقد أعلنت القيادة الفلسطينية أن إسرائيل هي المتهم الأول، وأنها ستواصل العمل وصولاً إلى الأداة وهذا الأمر يفرض علينا حقيقتين راسختين يجب أن تكونا حاضرتين في ضميرنا وتوجهنا: الأولى، أن اليد التي امتدت إلى الرئيس عرفات يجب أن لا تفلت من العقاب، سواء التي خططت، أو سهَّلت، أو التي نفذت. والثانية أن الثوابت التي استشهد من أجلها ياسر عرفات، يجب أن تبقى ثوابتنا مهما اشتدت الصعاب والمحن، وبالتالي حقنا الثابت في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على أرض ال 67، والقدس عاصمة لها، وعودة اللاجئين إلى ديارهم.

الكتابة عن ياسر عرفات في مناسبة الشهادة، أمر بالغ الصعوبة، لأننا تعودنا على ياسر عرفاتان يكون حاضراً أبداً، لذا رغم مضي السنوات التسع لم نستوعب بعد أمر رحيله، فقد خلناه عصيٌ على الموت، الذي لاحقه على امتداد أربعين عاماً، من النضال والقتال والحضور في جميع الساحات، وحين أدرك أبو عمار أن اللحظة اقتربت، وهو محاصر في المقاطعة، مضى إلى قدره كما يمضي الرجال الرجال إلى آجالهم: "يريدوني أسيراً أو شريداً أو طريداً.. ولكني أقول لهم: شهيداً... شهيداً... شهيداً".

سأحاول في هذه المقالة، أن أسلط الضوء على شخصية أبو عمار لنتعلم منها، ونهتدي إليها، لا سيما الجوانب الإنسانية والأخلاقية والقيادية، وهو أمر لا مكن اختصاره بمقالة واحدة، وهذا يفرض إبراز العناوين الأساسية لها:

أولاً: لم يكن ياسر عرفات زعيماً أو رئيساً، فمعارضوه يشهدون انه فلسطين بحينها، لذا هو صاحب قرارها سلماً أو حرباً، فإذا صوَّب بندقية صوَّبت، وإذا لوَّح بغصن الزيتون لوحَّت. من أين لياسر عرفات هذه المكانة بين شعبه، حتى صار رجلاً اسمه "فلسطين" وليصبح كل الشعب الفلسطيني أبا عمار!؟ لقد تنبه باكراً إلى هذا الأمر صحفي غربي فأسماه "السيِّد فلسطين". وقد درج أصدقاء فلسطين في الخارج على رفع كوفية أبو عمار والتلويح بها باعتبارها عنوان فلسطين ورايتها وعلمها. عرف قدر شعبه فأسماه "شعب الجبارين"، فعرف شعبه قدره وأطلقوا عليه لقب "الوالد".

 

ثانياً: من المؤكد أنه ليست قضية فلسطين ومركزيتها وعدالتها، وحدها التي منحت ياسر عرفات هذه المكانة، وهذه الهالة التي تليق برجل مثله، فللرجل صفات وخصال ومزايا ذاتية، جعلته نبي التيه الفلسطيني ونبي العودة المؤجلة أو المتدرجة.

 

ثالثاً: لأن فلسطين تجمع ولا تفرِّق، فقد ائتلفت في حركة فتح التي أسسها وأطلقها ياسر عرفات، جميع الأطياف الفلسطينية العلماني والإسلامي، الوطني والماركسي والقومي، في تنوع مهيب يؤسس الوحدة، وحدة لا تبدد التنوع بل تغنيه، ولأن فتح قبل التنوع في تكوينها السياسي، قبلته في العلاقة مع أخواتها في الفصائل الفلسطينية، فكانت منظمة التحرير أشبه بباقة ورد بألوان متعددة وضمن مبدأ "دع ألف زهرة تتفتح في بستان فلسطين".

 

رابعاً: كانت علاقة ياسر عرفات بشعبه علاقة مباشرة، فلم يكن بينه وبينهم مسافة شاسعة، لذا لم يحتج ياسر عرفات إلى أمن وعسس واستخبارات تملأ هذه المسافة، وبالتالي تتسلط وتصادر قوة الشعب وارادته. ومن جهة ثانية مكنه هذا الأمر أن يكون قريباً من قضايا شعبه اليومية الحياتية والوطنية والشخصية، ولهذا قصده كل طالب حاجة مهما صغرت أو كبرت. أحب شعبه، فبادله الحب.

 

خامساً: لقد احترم ياسر عرفات من سبقه في النضال، فكان يقول "إن النضال ما هو إلا عملية تواصل مع من كانوا قبلنا، ومن هم الآن معنا، ومع من سيأتي بعدنا".

 

سادساً: ساوى أبو عمار نفسه مع إخوانه في القيادة، وأبنائه المقاتلين، فلم يجد نفسه إلا بينهم ومعهم، واشهد أن أكثر المناسبات التي التقيته فيها: المعارك، وافطارات شهر رمضان.

فما احتدم قتالٌ في مكان إلا وكان فيه أبو عمار "الرجل الأصلب في الموقع الأصعب". وكلما تقدم به العمر، كان يزداد حضوراً وتألقاً لذا كان "أكبرنا عمراً وأكثرنا شباباً". ويشهد كل من عرفه أنه لم يذكر يوماً بسوء رفيق درب، ولم يستغب أخاً، بل كان واسع الصدر رؤوفاً حنوناً مسامحاً حتى مع الذين أخطأوا بحقه.

 

سابعاً: لم يحتج ياسر عرفات إلى القوة ليحمي موقعه القيادي ومكانته، لذا أنشأ في فتح قانوناً صار ملازماً لها واسمها الحركي "قانون المحبة". ولم يطلب أبو عمار لنفسه العظمة فكان يشيح بوجهه عن مغريات الجاه والسلطان، وإذا ما فُرشت السجاجيد الحمر ومشى عليها واستعرض حرس الشرف فإنما من أجل فلسطين ومكانتها، وكان كثيرون ممن يعرفونه يشفقون عليه في هذا الموقف المتناقض مع طبيعته وتكوينه.

 

ثامناً: أما حكايته مع القرار الفلسطيني المستقل فإنها تبدأ ولا تنتهي، حاول الكثيرون جذبه إلى مشاريعهم ومرامهم، لكن بوصلته ظلت دائماً نحو فلسطين رغم أن الثمن كان باهظاً. فأبو عمار لم يلقِ مرساته مرَّة إلا في ميناء فلسطين، ولا بات ليلة في فراش سواها.

 

تاسعاً: كان ياسر عرفات أولنا يقظة وآخرنا نوماً، أوسطنا قامة وأعلانا هامة، كان رجلاً حركياً لا يكل ولا يمل، يضع الحدث ويترك للآخرين التعليق عليه. هو رجل الحقائق الدافعة التي لا يمكن محوها، وكان هاجسه أن يكون لشعبه مكان بين الأمم، ويفرض حضوره في عالم لا يعرف لغة العدل، بل لغة الأقوياء.

 

عاشراً: لأن علاقة عرفات بشعبه كانت علاقة مباشرة، فإن كلماته وخطبه كانت أيضاً مباشرة من القلب إلى القلب، لذا حفظها الشعب الفلسطيني ويستحيل أن تجد أحداً لا يردد "يا جبل ما يهزك ريح.. شعب الجبارين.. سيرفع شبل من أشبالنا علم فلسطين.. عالقدس رايحين شهداء بالملايين".

 

هذه كلمات في خصال أبي عمّار، فيما يحتاج الأمر إلى كتب ومجلدات تقيه حقه في المؤكد أننا سنحتاج إلى الزمن الكافي، ليتحرر القلب والعقل من وطأة الغياب، ويقيننا أن الذي سكن العيون والأفئدة لا يغيب ولا يرحل. وعهدنا أن نحفظ فتح لينتصر مشروعنا الوطني ونحمل رفاته من ضريحه المتأهب في رام الله إلى تربة الأقصى.