نحن منذ إنطلاقة الثورة الفلسطينية وشعبنا الفلسطيني يحتضن هذا المولود الجديد باعتباره الأمل، والمخلِّص، والقادر على رسم ملامح ومكوِّنات المستقبل الوطني من هُوية وطنية تعيد لملمة الشتات والتشرد لتجعل المخيمات ساحات كفاح وإبداع وأمل، وأيضاً تجسيد الكيان الوطني الفلسطيني جغرافياً على أرض الوطن، يكبر وينمو وينضج تحت الاحتلال، ويكتسب القوة والمنعة في ظل الصراع القائم والشامل، وينتزع سيادته من براثن المعتقلات والزنازين، والدماء النازفة، والحصار القاتل، وحالة الرعب والتعذيب، فنحن شعبٌ سيِّدٌ على أرضه، متمسِّكٌ بترابه وأشجار زيتونه، لا نرى في الاحتلال إلاّ قوة قهرٍ وطغيان، ومنها نرى إشعاعات الحرية تتفجَّر من صلب المعاناة، ورحْم العذاب، ننتظر المولود ولا نيأس، إنتصارنا الأول والاهم أننا لم نغادر ولن نغادر أرضنا، نحن مزروعون فيها كما أشجار النخيل والزيتون، كما الأقصى وخليل الرحمن، وكما ضريح ياسر عرفات ومحمود درويش، نحن كنا، ونحن عدنا، نحن باقون في الضفة وغزة، في المثلث والنقب والجليل، في القدس وباحات أقصاها، وصخرة المعراج، وأجراس الكنائس وبيت لحم والقيامة.. نحن باقون ننتظر مولودنا.. دولتنا... استقلالنا.. ولن نرحل... نحن عائدون ولن نيأس، كفرنا باللجوء والتشرد، كفرنا بالغربة والتوطين، وآمنا بأننا نموت ونحيا على أرض فلسطين.
منذ انطلقت الثورة، وتبلورت الفكرة، وحركة فتح تتسللُ إلى عقول الكبار والصغار، وتترسَّخ في القلوب، وتحطُّ الرحال في النفوس، تتجذَّر فينا كلَّما نضجت مآسينا، وهكذا كانت فتح ومازالت في مستقبلنا حاضرنا وماضينا، نحن بعضٌ منها وهي تعيشُ فينا.
ندرك تماماً أنَّ المشوار طويل، وأنّ رحلة العودة محاطةٌ بالأشواك، وأنياب الذئاب، وأصناف العذاب، وندرك أنّ أحد أسباب القوة والمَنعة التواصلُ مع الماضي، والعودة إلى الينابيع الأولى، واستنفار مصادر القوة والاعتزاز فينا، وعلينا أن لا نستغربَ ونحن بوعينا الكامل أنّ الذين يسعون إلى شطب تاريخنا، وتلويث جغرافيتنا، وتجريدنا من مصادر اعتزازنا وكرامتنا يعملون ليل نهار، وصيف شتاء، على اقتلاع ومسح فكرة "الفتح" من أعماقنا وقلوبنا ووجداننا، من أجل زرع مفاهيم تُسهِّل عملية تبديلها والمتاجرة فيها، وتطويعها وتدجينها. ويُفاجأُ تجارُ المبادئ والمتسلقون على جدران قلعة الوطنية بأنَّ فكرة الفتح محصّنةٌ وعصيَّة، لأنها تعيشُ في ضمائر الأجيال، في الأنسجة والخلايا، في صفائح دمائنا، وتلافيف دماغنا.
فكرة الفتح المتفجرة والمُشعة ذاتياً تفاجئُ أعداءَنا وحُسَّادهَا، والساعين إلى تقزيمها أو المتاجرة فيها بأنهم يتساقطون أمام أقدامها فحركة فتح تعيشُ في ضمائر الأوفياء والشرفاء الذين حملوا وصايا الشهداء، والاجيال الصاعدة تثبت يوماً بعد يوم أنها الأشدُّ وفاءً وإخلاصاً لفتح الانطلاقة، لفتح الثورة الرائدة، لفتح صانعة الكيان والهوية. اعتقد الكثيرون من الحاقدين أنه بإمكانهم التلاعب بالقناعات والمبادئ والأهداف، وزرْعِ سموم التشكيك، والانقلاب على المفاهيم المتجذّرة تحت وطأة الإغراءات واشعال الرغبات والشهوات، وتشويه الحقائق.
ما يجب علمه والايمانُ المطلق به أنَّ حركة فتح هي العمود الفقري للثورة الفلسطينية، ولذلك فإنَّ عوامل الهدم والتدمير والتخريب تستهدفُ حركة فتح سواء من هو خارجها أو من كان داخلها، كلُّهم يعيشون على الأوهام، وتبقى هذه الحركة الرائدة في قلب القلعة تمنحها القوة والصلابة والتماسك.
الشعب الفلسطيني صاحبُ قضية هي الأعمق والأشمل والأشد جذرية، ولهذا فهو الأكثر استهدافاً لأنه العقبة الأساسية بوجه كل أشكال المؤامرات. هذا الموقع المتقدم للقضية الفلسطينية يفرض على قواها وأبنائها ومخيماتها مسؤوليات تاريخية تضع الجميع أمام المسؤوليات الجِسام انطلاقاً من المفاهيم التالية:
أولاً: إنَّ المشروع الوطني الفلسطيني الذي قاد الكفاح الوطني الفلسطيني والذي أنتج "م.ت.ف" الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هو الأنضج والأقدر، وعلى كافة القوى الفلسطينية حسم أمرها بهذا الاتجاه حفاظاً على الكل الفلسطيني، وتجنباً لأية صراعات داخلية، وبمعنى أوضح رفضُ التقسيم عملياً، والذي هو مصدر قوة للاحتلال، والتوصل إلى المصالحة والوحدة الوطنية والقبول بالانتخابات كاستحقاق وطني شعبي لا مفرَّ منه، وهكذا يكون الحصان أمام العربة وإلاّ فإنّ ما يجري على أرض الواقع ما هو إلاّ وضع العصي في دواليب مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني.
ثانياً: إنّ نيلَ الاستقلال والحرية بعد دحر الاحتلال لا يكون بالتمنيات وبالخداع الإعلامي، وانما يحتاج إلى خطوات واضحة وثابتة تتعلق بالثوابت الوطنية. ويأتي في المقدمة منها العودة عن الانقلاب في قطاع غزة، وتوحيد القطاع مع الضفة، وتوحيد المؤسسات الفلسطينية بكل مكوناتها من أجل تمكين السلطة الوطنية الفلسطينية من ممارسة دورها المُعطَّل قسراً، لرفع الحصار عن القطاع، وفتح المعابر مع قطاع غزة، وانهاء المأساة التي يعيشها أهلنا هناك جرَّاء المخطط الاسرائيلي الضاغط والمستفيد من واقع الانقسام، ومن واقع الشرخ الذي أحدثته حركة حماس في المشروع الوطني عندما ربطت نفسها بمشروع حركة الاخوان المسلمين في المنطقة وفي العالم، وأرادت جعل القضية الفلسطينية قضية ملحقة بالترتيبات التي تقررها قيادة الاخوان المسلمين، وهذا هو جوهر الخلاف الحالي لأن فلسطين قضية مركزية وجوهرية ونرفض أن نضعها في جيب أحد.
ثالثاً: إنَّ الحفاظ على أمن المخيمات واستقرارها، وتفعيل دورها الوطني بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية والسلوكية هي مهمة مقدَّسة وترتبط مباشرة بموضوع الصراع ضد الإحتلال الاسرائيلي، كما ترتبط بمعركة تطهير الأقصى وحماية القدس، ولا شك أن التلاعب بأوضاع المخيمات الفلسطينية أمنياً، أو جرها عسكرياً، أو توريطها سياسياً، أو شقها إجتماعياً، كل هذا يخدم العدو الاسرائيلي الذي يرى في مخيمات الخارج والشتات ألدَّ الأعداء، فهم القادرون على حماية الثوابت الفلسطينية، وخاصة تنفيذ حق العودة عملياً على جدول أعمال كافة الانشطة والمؤتمرات الدولية والاقليمية والعربية.
من هنا تأتي أهمية الحفاظ على الوجه الحقيقي للمخيمات الفلسطينية كعنوان للقضية الفلسطينية، ورفض كافة محاولات جرِّها أو تشويهها أو اعطائها عناوين أخرى تخدم هذه الدولة أو تلك، هذه الجهة أو تلك، هذا الفريق أو ذاك.
لأننا إن فعلنا ذلك قزَّمنا القضية الفلسطينية، وأغرقناها في صراعات حزبية وايديولوجية وسياسية لها أول وليس لها آخر.
ونحن في حركة فتح ومنذ إنطلاقتنا التنظيمية في العام 1958، وانطلاقتنا العسكرية كثورة في العام 1965 نؤمن بضرورة تجنيب هذه القضية المركزية أية صراعات جانبية لأنَّ الصراع الحقيقي والضروري هو ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونحن لا نريد إضاعة البوصلة الفلسطينية، حتى لا يغرق المركب الفلسطيني في بحر فوضى الصراع المتلاطم الأمواج. من أجل ذلك نحن ندعو الجميع إلى اعتبار الوحدة الداخلية للمخيمات هي الأهم، وأن حماية النسيج الداخلي الوطني هو من أهم الأهداف. كثيرون هم الذين يطمحون إلى استخدامنا من أجل استنزافنا، وإضعافنا، والسيطرة علينا، وتحويلنا إلى سلعة تُباع وتُشترى من أجل أهداف الآخرين.
رابعاً: من سوء حظنا أن عدوَّنا الاسرائيلي نجح حتى الآن بإثارة الصراعات والنزاعات المذهبية والطائفية والسياسية، وهذا ما يؤلمنا ويؤرقنا لأن هذا النزيف اليومي هو من دمائنا، والقتلى هم من أهلنا وأبنائنا، والدمار من رصيدنا. واذا كان واقع الحال هذا ما يحيط بنا فنحن نرفض أن نكون زيتاً يُصَبُّ على نار الفتنة، ونأبى إلاّ أن نكون عامل تهدئة واستقرار، عاملَ تجميع وتوحيد، عامل حماية وصيانة لأهدافنا الوطنية والقومية، إنَّ قوة المخيمات لمن يريدها قوية لا يكون إلاّ بإبعاد أبنائها عن أية نزاعات أو صراعات، نحن أمامنا مشوار طويل نستعدُّ لاستكماله حتى النهاية، وهذا هو مصدر قوتنا واعتزازنا.
خامساً: ولأننا في مخيمات لبنان لاجئون وأصحاب قضية أحرى بنا أن نكون أكثر التزاماً بمنطلقاتنا، وأكثر وفاء لأصحاب الضيافة، وأن لا نكون سبباً في إشعال أي حريق وإنما أن نكون نحن من يطفئ الحرائق. أهل البيت أدرى بخلافاتهم، وأعرف بخباياهم، وليس من الأدب ولا من التأدُّب أن نصنِّف أنفسنا فريقاً هنا أو فريقاً هناك، فمن شأن هذا التصنيف أن يزيد الأمور احتراقاً، وأكثر من ذلك فهو قد يُدخل الحريق إلى بيوتنا فنكون بذلك قد ضيَّعنا وأضعنا، وعندما ننهج هذا النهج الخطير بأن نصنِّف أنفسنا أمام أي صراع بين طرفين أو أكثر فعندئذ نحوِّل قضيتنا المركزية إلى قضية زاروب من الزواريب الحزبية أو التنظيمية أو المذهبية أو الطائفية، وهذه تكون بداية النهاية لا سمح الله ولا قدَّر.
لقد اختارنا الله عزَّ وجلَ كي نكون في الخندق الامامي، وكي نكون حماةَّ الاقصى، وأن نكون المدافعين عن الارض المباركة، فلنكن في مستوى الرسالة والامانة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها