في التاريخ العربي المعاصر لمعت في سماء المنطقة العربية شخصيتان ساحرتان هما: جمال عبد الناصر وياسر عرفات. ولعل هاتين الشخصيتين، من بين جميع الشخصيات العربية الأخرى، امتلكتا مشروعاً سياسياً واضح المعالم، بل انفردتا بالسعي الى تحقيق ذلك المشروع.

كان جمال عبد الناصر يريد أن يجعل من مصر دولة إقليمية مركزية لها شأن فاعل، لا في افريقيا وحدهما، بل في آسيا العربية كلها، وتوسل الى ذلك الخطب الحماسية التي اختلطت فيها عبارات الحرية والاستقلال والوحدة بنبرات صوته الرخيم الذي طالما تسلل الى وجدان العرب وافئدتهم عبر آذانهم.

أما مشروع ياسر عرفات فكان أصعب وأخطر مشروع سياسي في المنطقة العربية بأسرها، بل ربما كان، ولا سيما في البدايات الأولى، أقرب إلى المحال، لأن هذا المشروع، أي مشروع تحرير فلسطين الذي أطلقه ياسر عرفات في 1/1/1965، يكاد يفجر العالم؛ فهو يتجول بين منطقة مليئة بالبترول وبين دولة اسرائيل، أي بين تخوم المصالح الغربية الاقتصادية ومصالحها الأمنية. فمن يجرؤ على تهديد هذه المصالح مرة واحدة؟

إن الدعوة الى "تحرير فلسطين" كلها من النهر الى البحر كانت تعني أمراً واحداً في منتصف ستينات القرن العشرين هو استدراج العالم كله للوقوف ضد تدمير الدولة اليهودية التي هي، في نهاية المطاف، ثروة استراتيجية فائقة الأهمية للغرب الأوروبي والأميركي معاً. ومع ذلك، اندفع ياسر عرفات بهذا المشروع الى أقصاه. وعندما تمكن من إعادة شعبه الى خريطة السياسة العالمية، ولا سيما بعد خطابه المشهور في الأمم المتحدة في 13/11/1974، راح يُفصح عن واقعيته الثورية، ويتخلى عن بعض المحطات الرومانسية في المواقف ليجاهر، أخيراً، بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.

رفض كثير من الفلسطينيين فكرة " الدولة الفلسطينية المستقلة" في سنة 1974. لكن الفلسطينيين ساروا وراء ياسر عرفات بقوة. وهنا، بالتحديد، تكمن معايير القيادة الحقيقية وعناصر الزعامة التاريخية. فالقائد أو الزعيم ليس مَن يستدرج غوغائية الجماهير وحماستهم، فهذه حِرفة شيوخ الجوامع، إنما القائد هو مَن يتخذ القرار التاريخي في اللحظة التاريخية الملائمة، ويسير الناس وراءه بلا تردد. وياسر عرفات كان من طراز هذه القيادة بلا أدنى شك.

لم يمتلك ياسر عرفات أي عنصر من عناصر الجاذبية السياسية التي امتلكها جمال عبد الناصر؛ فلم يستند الى ثقل دولة من عيار مصر، فهو بلا دولة. ومع ذلك تحوّل، بالتدريج، الى الشخصية العربية الأكثر فاعلية في الشرق الاوسط برمته.

كان قائداً لشعب بلا دولة، وكان حلم حياته ان ينتزع لشعبه دولة على ارضه التاريخية. وفي خضم هذا النضال السياسي والعسكري المتراكم، صار ياسر عرفات عَلماً ظل خفاقاً طيلة أربعين سنة متواصلة، ومازال.

اين يكمن السر إذن؟ ومن أين لياسر عرفات، (وهو القائد الضعيف كأجنحة القطا – بحسب محمود درويش) أن يمتلك هذه القدرة على الاستمرار لاعباً رئيسياً في منطقة شديدة التقلب والبلبة والاضطراب؟ بالتأكيد ليست قضية فلسطين وحدها هي التي منحت ياسر عرفات هذه الهالة التي تليق به في اي حال؛ فثمة، بلا ريب، عوامل أخرى جعلت من ياسر عرفات اسماً عاصفاً في العالم كله على امتداد أربعة عقود من الزمان. وهذه العوامل انما هي خصاله الذاتية اولاً واخيراً. ولعل التجربة اللبنانية، بمنجزاتها الكبيرة وبمآسيها الكثيرة، كانت النار المقدسة او المعمودية التي جعلت ياسر عرفات أحد أبرز قادة التحرر الوطني في العالم. وفيما يلي محاولة للإضاءة على كيفية إدارة ياسر عرفات للأحداث في خضم التحولات المتسارعة في الحقبة اللبنانية التي امتدت نحو أربعة عشر عاماً، من سنة 1968، وهي بدايات انشاء قواعد الفدائيين في العرقوب، حتى سنة 1982، تاريخ الخروج الفلسطيني من لبنان بعد حرب استمرت 88 يوماً بلا سند أو نصير.

 

ياسارية: الجبل الجبل

بعد الخروج من الاردن في صيف سنة 1971 اتخذ ياسر عرفات مقره الرسمي في دمشق، لكن مقره الفعلي كان في بيروت. أما الجسم العسكري للمقاومة الفلسطينية فقد تركز في منطقة العرقوب في الجنوب اللبناني وعند منحدرات جبل الشيخ، ثم راح يتمدد تدريجاً على طول الحدود مع اسرائيل. وقد كانت المرحلة اللبنانية أكثر مراحل الثورة الفلسطينية إيلاماً وإنجازات في الوقت نفسه. ومنذ البداية كان تنظيم فتح في لبنان بقيادة كل من إميل خوري وسمير أبو غزالة ( الحاج طلال) ولمعي قمبرجي وتوفيق الصفدي. وتولى يحيى عاشور (حمدان) قيادة الاقليم. وما إن بدأ قادة حركة فتح يتدفقون على لبنان، ويتخذون مكاتب لهم في المخيمات وخارج المخيمات، حتى ظهر التصادم في الصلاحيات مع قيادة اقليم لبنان، ووقع تمرد مسلح في 10/6/1972 في تل الزعتر قاده يحيى عاشور وانصاره. وقد واجه ياسر عرفات هذا التمرد بحزم ودراية، وتمكن من ابعاد يحيى عاشور الى القاهرة. ومن مقره في بيروت أدار أصعب ثورة في التاريخ العربي المعاصر، وواجه أهوالاً كثيرة، ونال، في الوقت نفسه، مكانة لا تضاهى. وأول ما واجهه ياسر عرفات هو الميل العربي الى الاعتدال بعد سنة 1970. ففي سورية، وبعد تسلم حافظ الأسد السلطة التي دانت له تماماً،قبلت سورية القرار 242 وانضمت الى محور مصر – السعودية. وفي العراق أزيح كل من حردان عبد الغفار التكريتي – وعبد الخالق السامرائي المؤيد للفدائيين بقوة وصالح مهدي عماش وعبد الكريم الشيخلي وحماد شهاب وسعدون غيدان ثم ناظم الكراز، وانفرد الثنائي أحمد حسن البكر ( الذي كان يكره ياسر عرفات) وصدام حسين بالسلطة. وفي مصر لم يلبث الرئيس أنور السادات ان أطاح خصومه في أيار/مايو 1971 وزجهم في السجن أمثال علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف. وفي لبنان كان ياسر عرفات يخشى تكرار التجربة الاردنية، فسعى الى التفاهم مع الجميع يميناً ويساراً. لكن حلفه الاساسي ترسخ مع كمال جنبلاط ومع الحركة الوطنية اللبنانية التي تألفت آنذاك من الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب البعث وحركة المرابطون وشخصيات لبنانية يسارية. وكان لكمال جنبلاط مكانة خاصة لدى ياسر عرفات، فلم يرفض له طلباً على الرغم من بعض الاختلافات في النهج السياسي، وعلى سبيل المثال كان ياسر عرفات، بين 1970 و 1976، يحتاج الى كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية لتأمين غطاء سياسي له في لبنان. لكن، منذ سنة 1976 فصاعداً صار كمال جنبلاط هو من يحتاج الى ياسر عرفات لمواجهة سورية واليمين اللبناني المتمثل آنذاك بـِ "الجبهة اللبنانية". في أي حال، تمكن ياسر عرفات، وبسرعة، من انتزاع شرعية لوجوده في لبنان فوق ما منحته اياه اتفاقية القاهرة في 13/11/1969. ففي 30/9/1971 زار القصر الجمهوري اللبناني، والتقى الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس سليمان فرنجية، وبحث معهما عدة شؤون منها الوساطة السعودية – المصرية لتسوية الخلاف مع الاردن، فضلاً عن بعض القضايا ذات الصلة بالفدائيين في لبنان. ومن مقره في منطقة الفاكهاني في بيروت ادار السياسة الفلسطينية والعمل العسكري الفلسطيني معاً. وكانت اجتماعاته الليلية لا تنتهي الا عند الفجر. كانت السياسات العربية تميل، على العموم، الى الاعتدال النسبي، وكانت السياسة الفلسطينية تخالف هذا الميل، وتتوسل نهج الكفاح المسلح والعنف الثوري. وهذا الأمر أرغم ياسر عرفات على اختيار خط السير المتعرج كمن يسير في حقل من الالغام. فكان شديد الحذر في مواقفه، وكثير المرونة في تصريحاته، وقليل الارتباط بعلاقات اجتماعية خارج دائرة رفاقه في المقاومة الفلسطينية، وانصرف الى معالجة المشكلات الأمنية التي تضافرت عليه فأنهكته، وجعلته يصرف أوقاتاً متطاولة لها. وكان أول تحد له هو كيف يحمي، في بيئة شبه معادية ونصف صديقة، أمن المقاومة ومؤسساتها، وأمن القادة الفلسطينيين، ويواصل الكفاح المسلح، ويمارس العمل السياسي في الاطار العربي، والعمل الاعلامي والسياسي في النطاق الدولي،  وان تصب هذه الروافد كلها في مجرى واحد هو حركة التحرر الوطني؟ وقد تمكن ببراعة فائقة من اقامة علائق قوية مع الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، وأن يحافظ على علاقاته الوثقى بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج في الوقت نفسه. وفي هذه الاثناء كانت اسرائيل تغتال غسان كنفاني في منطقة الحازمية شرق بيروت في 8/7/1972 وترسل طرداً ملغوماً لينفجر بين يدي أنيس صايغ في 19/7/1972 وترسل طرداً ثانياً لينفجر بين يدي بسام ابو شريف رئيس تحرير مجلة "الهدف" في 25/7/1972، وتغتال وائل زعيتر في روما في 16/10/1972، وتطلق النار على محمود الهمشري في باريس في 8/12/1972 ليتوفى في 9/1/1973، وتغتال باسم كبيسي في باريس ايضاً في 6/4/1973. وكانت الذروة في 10/4/1973 عندما تسلل فريق من الكوماندوس الاسرائيلي بقياد ايهود باراك الى بيروت، وتمكن، بتسهيل من عناصر داخلية لبنانية من اغتيال كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر. وهذه الحادثة ادخلت الوضع اللبناني في مشكلات سياسية وامنية متفاعلة، ومهدت السبيل للانفجار اللاحق في ايار/ مايو 1973.

لم يذعن ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية لهذه المخاطر البتة. فقامت حركة فتح بممارسة الحرب المضادة السرية ضد الموساد الاسرائيلي، فتمكنت من قتل تسادوك عوفير في بروكسل في 10/9/1972، وهو  دبلوماسي وعضو في الموساد، وقتلت موشيه حنان يشاي في مدريد في 26/1/1973، وأردت سيمحا غليتزر في قبرص في 12/3/1973، ويوسف الون في واشنطن في 1/7/1973، وعامي تساحوري في امستردام في 10/9/1973.

 

الطريق نحو الانفجار

سار في جنازة القادة الثلاثة كمال عدوان وابو يوسف النجار وكمال ناصر نحو 250 الف شخص بحسب تقديرات تلك المرحلة. وكان الفلسطينيون آنذاك لا يستطيعون حشد اكثر من خمسين الفاً في أقصى امكاناتهم. وهذا يعني ان الاغلبية الساحقة من المشاركين هي من اللبنانيين. وقد لفت هذا الامر الاجهزة الامنية والعسكرية في لبنان، ومحطات المخابرات الاجنبية في بيروت، ولاحظ الجميع ان المقاومة الفلسطينية باتت قوة كبيرة، بل قوة سياسية لبنانية يحسب لها الحساب. ومنذ ذلك الحين بدأت العُدة تُعدُ لضربها. وكان ان انفجر القتال في 2/5/1973 بين الجيش اللبناني والفدائيين الذين تصدوا لمحاولات تطويق المخيمات وقصفها بالطيران. وقد كان المقصود شل فاعلية المقاومة تماماً، واخضاعها للقواعد الامنية اللبنانية، وان تيسر الامر، فالقضاء عليها على الطريقة الادرنية. وبالطبع لم يتمكن الجيش من اقتحام المخيمات، وتلقى الرئيس اللبناني سليمان فرنجية انذاراً من الرئيس انور السادات، وانذاراً آخر من الرئيس حافظ الأسد الذي اتبع انذاره بغلق الحدود السورية – اللبنانية. وعند ذلك توقف القتال، وخرج الفدائيون من هذه المعركة بفوز سياسي.

 استثمر ياسر عرفات نتائج احداث ايار 1973 لتعزيز مكانته السياسية. وهذه المكانة أتاحت له المشاركة في الحرب التي نشبت في 6 تشرين الأول/ اكتوبر 1973 بين جيشي مصر وسوريا من جهة والجيش الاسرائيلي من الجهة المقابلة. وفور اندلاع المعارك اصدر ياسر عرفات اوامره الى قوات حطين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني في سوريا، والى قوات عين جالوت في مصر بالانخراط في الحرب الى جانب الجيشين المصري والسوري وفي جنوب لبنان قامت قواعد الفدائيين بقصف مواقع للجيش الاسرائيلي، ونفذت عمليات اغارة واعاقة لتقدم الوحدات الاسرائيلية نحو الجولان السوري.

ساهمت مشاركة قوات الثورة الفلسطينية في حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973 في انتزاع مكانة عربية خاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية وصار ياسر عرفات لاعباً اساسياً في سياسات المنطقة. وفي هذا الميدان كوفئ ياسر عرفات في مؤتمر القمة العربية السابعة المنعقد في الرباط في 29/10/1974 باتخاذ المؤتمر قراراً يعترف فيه بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. ثم جاء اعتراف منظمة الوحدة الافريقية ومؤتمر دول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الاسلامي ليرسخ مكانة المنظمة ورئيسها في النطاق الدولي ايضاً. ثم وافقت الجمعية العامة للامم المتحدة في سنة 1974، وبأغلبية 110 دول، على قبول منظمة التحرير الفلسطينية عضواً مراقباً لديها ما أفسح في المجال امام ياسر عرفات لالقاء كلمة فلسطين امام الجمعية العامة للامم المتحدة.

 

أمام أنظار العالم

في 13/11/1974 وقف ياسر عرفات امام ممثلي دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والى جانب الكرسي الاصفر المخصص للرؤساء تلقى عاصفة من التصفيق لم تتح لغيره على الاطلاق. ومن على منصة الخطابة القى ابو عمار خطبة بليغة ختمها بالقول: " جئتكم ثائراً أحمل غصن الزيتون بيد والبندقية في اليد الأخرى. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". وكرر هذه العبارة مرة ثانية، فانفجرت القاعة بالتصفيق الذي استمر نحو  ثلاث دقائق. وحينما استمع ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي الى خطبة ياسر عرفات قال:" لقد ايقظ ياسر عرفات في داخلي تاريخاً من غياب الوعي، وجعلني اشعر بأنه ما زال ممكناً ان تلد ارض فلسطين الانبياء". لم تكن الارض السياسية ممهدة او معبدة تحت اقدام ياسر عرفات ورفاقه حينما تمكن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من تحقيق هذه الانجازات. فمنذ ان أقر المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر المنعقد في القاهرة في 1/6/1974 وثيقة البرنامج المرحلي المعروفة ببرنامج النقاط العشر الذي يتضمن فكرة الدولة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى شرع البعض في اقامة العوائق في وجه ياسر عرفات وحركة فتح. فدعم النظام العراقي مجموعة صبري البنا (ابو نضال) في انشقاقه على فتح ثم تنكيله بكثير من كوادر الحركة بالقتل اغتيالاً. وفي 29/9/1974 أُعلن عن تأسيس " جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية" المعروفة باسم "جبهة الرفض" اختصاراً، والتي تلقت دعماً كبيراً من العراق، وفي الوقت نفسه كانت اسرائيل تخطط لاجهاض او تحطيم الموقع الذي احتلته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، خاصة ان العمليات العسكرية الفلسطينية ضدها باتت اكثر تطورا وفاعلية مثل عملية كريات شمونة ( 11/4/1974)، وعملية معالوت (15/5/1974)، وعملية كفار شمير (13/6/1974)، وعملية "فندق سافوي" في تل ابيب ( 5/3/1975) وغيرها. ولم تكن الولايات المتحدة الامريكية لتقبل مثل هذه التطورات في الشرق الاوسط بعد انسحابها من فيتنام في سنة 1975. لذلك راح هنري كيسنجر، وزير الخارجية الامريكية الذي تمكن، بجولاته المكوكية، من فك الاشتباك بين الجيش المصري والجيش الاسرائيلي في سنة 1974، ونجح في جر مصر الى توقيع اتفاقية سيناء في سنة 1975 التي كانت تمهد لاعادة افتتاح قناة السويس امام الملاحة الدولية، يعد الخطط لاغراق الثورة الفلسطينية في الوحول اللبنانية، فنجح في تفجير صاعق الحرب الاهلية اللبنانية في سنة 1975 التي لم تتوقف الا في سنة 1990.

 

وحول الحرب الاهلية

بدأت الحرب الاهلية اللبنانية بمجزرة ضد الفلسطينيين في 13/4/1975 حينما اطلقت عناصر تنتمي الى حزب الوطنيين الاحرار النار على باص لبناني يقل عدداً من الفلسطينيين واللبنانيين، لكن مقدمات هذه الحرب بدأت بعد حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973. وكان اليسار اللبناني في ذروة صعوده، وكان يتطلع الى تغيير النظام اللبناني الطائفي او تطويره الى نظام أقل طائفية واكثر عدالة. وكان ياسر عرفات يخشى انفجار التناقضات اللبنانية في وجهه بينما كان كمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية يسعى الى كسر المعادلة اللبنانية وتغييرها. وفي خضم التعقيدات السياسية والعسكرية التي خلقتها الحرب الاهلية صار ياسر عرفات لاعباً في السياسة المحلية اللبنانية، وهو الامر الذي لم يكن يريده، بل وجد نفسه غارقاً فيه. وفي معمعان هذه الحرب سقط العديد من المخيمات الفلسطينية وجرى تدميرها والتمثيل بساكنيها مثل تل الزعتر وجسر الباشا وضبيه. وتشابكت خيوط هذه الحرب حتى صار من غير الممكن الخروج منها بتاتاً، بل ان حماية منظمة التحرير الفلسطينية باتت تستوجب الانخراط في الحرب نفسها. وهكذا تدخلت سورية بجيشها، وتدخلت اسرائيل من خلال حلفائها في "الجبهة اللبنانية" التي كانت تضم اليمين المسيحي اللبناني. وجاء اغتيال كمال جنبلاط في 16/3/1977 ليصيب ياسر عرفات بخسارة هائلة. وقبل ذلك سقط مخيم تل الزعتر، وتدفق من بقي من سكانه على مكاتب حركة فتح التي لم تجد وسيلة لإيوائهم غير بلدة الدامور اللبنانية. وهذا التصرف، علاوة على التحالف الذي ظهر بين سورية والجبهة اللبنانية آنذاك، كان يشير الى تقطيع علاقات ياسر عرفات محلياً وعربياً، ويزيد عزلته السياسية. ثم جاءت زيارة الرئيس انور السادات الى القدس في 19/11/1977 ليفقده ظهيراً عربياً مهماً، واضطر، مع تصاعد القتال في لبنان، الى اعادة تحالفه مع سورية التي انقلب عليها حلفاؤها اللبنانيون منذ سنة 1978 فصاعداً بعد التبدل في موازين القوى الذي خلقته زيارة السادات الى القدس، ما اسس لتحالفات جديدة في المنطقة العربية بأسرها. ولم تكد المقاومة الفلسطينية تتوازن قليلاً بعد اغتيال كمال جنبلاط وبعد التفاهم من سورية  حتى كانت اسرائيل تحتل جزءاً من جنوب لبنان، وتنشئ ما أسمته "الحزام الأمني" في جنوب لبنان. وهكذا صارت الحدود مع اسرائيل بعيدة، وتقلص نطاق العمليات الفدائية ضد اسرائيل.

استغل ياسر عرفات انتصار الثورة الاسلامية في ايران وعودة الامام الخميني من باريس كي يكسر بعض الطوق المضروب حوله. وكان اول زعيم يزور ايران في 17/2/1979 ويقابل الامام الخميني مهنئاً اياه بالنصر. والمعروف ان حركة فتح طالما احتضنت في صفوفها عشرات الايرانيين المعارضين لنظام الشاه محمد رضا بهلوي، وقامت بتدريبهم على استعمال السلاح وساعدتهم اعلامياً وسياسياً وعسكرياً. ومن بين هؤلاء جلال الدين الفارسي ومحسن رفيق دوست وأبو شريف. وحاول ياسر عرفات التوسط بين العراق وايران عندما اندلعت الحرب بينمها فلم يوفق في هذا المسعى، تماماً مثلما رغب في ان يكون وسيطاً بين ايران والولايات المتحدة الامريكية في اثناء ازمة الرهائن الاميركيين في ايران، فلم يتجاوب معه الايرانيون على الاطلاق.

بين سنة 1980 و 1982 تهتكت الاوضاع اللبنانية كثيراً، وأُنهك المجتمع اللبناني والمقاومة الفلسطينية معاً، وسقط الجميع في شباك القتل اليومي من دون اي نتيجة سياسية. واضطر ياسر عرفات الى ادارة الشؤون اليومية بطرق تجريبية لم يختبرها من قبل، ومشرّعاً الوضع اللبناني على شتى الممارسات، وصار مرتعاً لجميع اجهزة الاستخبارات في العالم، وتقاسمته مجموعة من اللاعبين المتصارعين بلا هوادة وبلا اي هدف ممكن. واستمر الوضع على حاله من التدهور والتفتت والانحلال حتى وقوع الاجتياح الاسرائيلي في الخامس من حزيران/يوليو 1982 وهذا الاجتياح ما كان متاحاً لاسرائيل على الاطلاق لولا توقيع معاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية في 17/9/1979، ولولا انهيار الميثاق القومي بين العراق وسورية الذي جرى توقيعه قبل ذلك في 26/10/1978، ولولا اندلاع الحرب العراقية/ الايرانية في 22/9/1980. ولا ريب في ان حال التهتك والانحلال التي شهدها لبنان بين 1980 و 1982 كانت، في بعض جوانبها، مخططاً لها بدقة، وكانت جزءاً من تهيئة الميدان لاجتياح 1982.

 

الى منفى جديد

في 3/6/1982 أطلقت مجموعة تنتمي الى جماعة صبري البنا (أبو نضال) النار على السفير الاسرائيلي في لندن شلومو أرغوف، فأصابته بجروح. وعلى الفور تذرعت اسرائيل بهذه الحادثة لتشن حرباً على المقاومة الفلسطينية في لبنان كانت قد أعدت خططها قبل ذلك بكثير. وبدأت الحرب في 6//6/1982 حينما اجتازت الدبابات الاسرائيلية الحدود مع لبنان نحو مواقع الثورة الفلسطينية.

كان ياسر عرفات، حينما بدأ القصف الجوي على مواقع المقاومة في بيروت في 4/6/1982 في جدة لمتابعة اجتماعات لجنة المساعي الحميدة لايقاف الحرب العراقية الايرانية. فغادر جدة على الفور، ووصل الى بيروت فجر اليوم التالي، وأعطى أوامره بإنشاء عدد من غرف العمليات المتفرقة. واتهم الولايات المتحدة بالمشاركة الفعلية في العدوان، كما اتهم قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان بالتواطؤ مع الغزو. وقد وصلت القوات الاسرائيلية الغازية الى مشارف بيروت في 14/6/1982 وطوقتها وفرضت عليها الحصار. وبين 14 حزيران و20 آب 1982 خاض ياسر عرفات قتالاً على جميع الجبهات رافضاً الاستسلام او الخروج من بيروت تحت راية الصليب الاحمر الدولي، كما كان أريئيل شارون يطالبه حينذاك. وبعد 88 يوماً من القتال اليومي والحصار الشامل، وبعد مشاورات مع حلفائه اللبنانيين وافق ياسر عرفات على خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت بناء على اتفاق مشرِّف يحفظ كرامة الثورة والمقاتلين، ويفصل كيفية خروج المقاتلين بأسلحتهم وكيفية خروج موكبه. وفي 30/8/1982 بعد أن غادرت آخر دفعة من الفدائيين، انطلق موكب ياسر عرفات من مقره في منطقة الفاكهاني الى منزل وليد جنبلاط في المصيطبة حيث كان قادة الحركة الوطنية اللبنانية والأحزاب اللبنانية في انتظاره. ثم انتقل الجميع في موكب حاشد، وتحت زخات الرصاص، الى القصر الحكومي لوداع رئيس الوزراء شفيق الوزان. أما محطة الوداع الأخيرة في بيروت فكانت في الميناء الذي تولت مهمات الحراسة وحفظ الأمن فيه قوات فرنسية وقوات أخرى من مشاة البحرية الأميركية. وقد حظي ياسر عرفات بوداع رسمي وشعبي طغى عليه التأثر العاطفي الشديد. وفي خطوة تجاوزت الأصول البروتوكولية أوفد الرئيس اللبناني الياس سركيس رئيس الحكومة شفيق الوزان والوزير رينيه معوض ليمثلاه في مراسم وداع ياسر عرفات. كما كان في الوداع المفتي حسن خالد، والرئيس سليم الحص والرئيس صائب سلام والرئيس تقي الدين الصلح والرئيس رشيد الصلح ومالك سلام ونسيب البربير وتمام سلام ومنح الصلح ومحسن ابراهيم ووليد جنبلاط وجورج حاوي ومروان حمادة وإنعام رعد وعبد الرحيم مراد وبشارة مرهج وفؤاد شبقلو ومحسن دلول ورياض رعد وحبيب صادق ونبيه بري ومدير المخابرات العسكرية في الجيش اللبناني العقيد جوني عبده، فضلاً عن سفراء فرنسا وايطاليا واليونان. وبعد ذلك صعد ياسر عرفات الى السفينة اليونانية "أطلنتيس" التي واكبتها أربع سفن حربية تابعة للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وايطاليا واليونان. وكانت محطته الأولى اليونان التي استقبله على مينائها رئيس الوزراء اندرياس باباندريو . ثم انتقل بعدها الى تونس التي وصلها في 3/9/1982 وكان في استقباله الرئيس الحبيب بورقيبة. وقبل مغادرة عرفات بيروت منح هذه المدينة وأهاليها "وسام صمود بيروت". وفي لحظة الوداع خاطب المودعين بقوله:

"الى فلسطين إني راحل. لكن قلبي سيبقى في بيروت. نركع أمام كل رجل وامراة وطفل لبناني، لأنهم قدموا لنا ما لم يقدم.

"بيروت التي غاب عنها العرب في أحلك لحظاتها، ماذا أقول عن غيابهم؟ فبيروت كاشفة العورات، العورات العربية. آه، ويكفي أن أقول آه.

"أيها النشء، إركع لهؤلاء الأبطال الذين أعطوني شرف القتال معهم وصنع ملحمة بيروت. قبل شارون وقف نابليون على أبواب عكا ولم يدخلها. وشارون وقف على أبواب بيروت ولم يدخلها".