الثورات الجذرية والحاسمة في التاريخ ما كان في امكان أحد ان يتنبأ بها بدقة رياضية؛ فهي مثل يوم القيامة، تأتي والناس لاهون او مشغولون في شؤونهم اليومية او نائمون. وثورات التاريخ كانت تصنعها قلة من الناس في العادة، بطرائق سرية وتآمرية، او بوسائل عدة كالتمرد او الاغتيال او انقلابات القصور وغير ذلك. اما الثورات الراهنة التي تندلع اليوم في العالم العربي فهي من طراز جديد تماماً. ومع ذلك فإن من المجازفة في الاستنتاج القول ان المثقف العربي لم يتنبأ بها، وان عيون المثقفين كانت غافلة كلياً عن هذا المخاض غير ان الذين ايقظوا هذه الثورات واطلقوا شراراتها  هم الذين ما كانوا قادرين على التنبؤ بالاحداث الى حد بعيد. لنتذكر ان بوعزيزي الذي اشعل الثورة التونسية لم يكن يفكر في الثورة حين اشعل نفسه، بل ان ما فعله انما هواحتجاج فردي على اهانته والنيل من كرامته. لنتذكر ايضاً ان الشبان المصريين كانوا قد تداعوا الى التجمع في ميدان التحرير في 25 يناير 2010، اي قبل سنة من ثورة 20 يناير 2011 ولم يأتِ آنذاك الى ميدان التحرير الا نحو 300 شخص، فضُربوا وطردوا من الميدان. اما في 25 يناير 2011، فأعيدت الكرّة واندلعت الثورة.

لماذا؟ ثمة اسباب مرئية واسباب غير مرئية، تفاعلت وتضافرت لتجعل من التغيير خياراً ممكناً. واعتقد ان الذين نظموا الدعوة الى التظاهر من خلال الفايسبوك لم يكن خيالهم قادراً على توقع الاحداث اللاحقة بصورة جلية. وفي المقابل، فإن المثقفين العرب النقديـين لم تكن رؤوسهم في الرمال تماماً. فمنذ اكثر من 25 سنة نُشرت مئات الدراسات، وصدرت عشرات الكتب وآلاف المقالات، وكلها تشدد على ان الاحوال في العالم العربي لا يمكن ان تستمر على هذا المنوال طويلاً، وان معدلات الامية، ومعدلات البطالة والفقر، وفشل مشاريع التنمية، وتقاطر ابناء الارياف الى المدن الكبرى،وظهور اقتصاد الضواحي والاحياء العشوائية، فضلاً عن الفساد والثراء الفاحش للفئات المتنفذه، واستبداد السلطات كلها ستؤدي الى انفجار الاوضاع في لحظة ما.

لكنني سأعترف ان هذه التوقعات كانت تجري على مستوى التحليل الاقتصادي والاجتماعي، وقلما تمكن السياسيون والمثقفون اليوميون، خصوصاً اليساريين، من التقاط عناصر التفاعل التي تسبق عاصفة التغيير، بل كثيراً ما كان هؤلاء يقيمون المنادب لذم الزمان وتقديح الشعوب جراء استكانتها وخنوعها ورثاثتها.

نعم، كثير من المثقفين العرب اشاروا الى ان الاحوال العربية التي انقلبت، ايما انقلاب، في اواخر سبعينيات القرن العشرين فصاعداً، ستخلخل عناصر الاستقرار في البلدان العربية، وان التغيير آتٍ لا ريب فيه. لكن هذه التوقعات تذكرنا بكتاب زبغنيو بريجنسكي " العصر التكنوتروني" وكتاب هربرت ماركوز " الماركسية السوفياتية" وكتاب كارير دانكوس "سقوط الاتحاد السوفياتي" وغيرها من الكتب المستقلة التي تمكنت من استشراق التطورات السياسية اللاحقة، لكنها بقيت في النطاق الاكاديمي، ولم تنتقل الى النطاق السياسي المباشر.

ان المثقف يسبق الثورة في العادة. لكن، ما إن تندلع الثورة حتى يجد نفسه خارجها. لماذا؟ لأن ميدانه هو التفكير حتى لو أخطأ في توقعاته وميدان الثوار التجريب، والويل لمن يخطئ في حساب السياسة.