أصبحت الأخبار المتداولة المتعلقة بمديح "العدو" دارجة على ألسنة الكثيرين، وبإسفاف، وربما على قلتهم إلا أن إبرازهم قد يعطي الدلالة على هشاشة جدار الثقافة العربية لدى البعض في مواجهة الأخطار من جهة، ويدلّل على ضعف الجسد العربي عامة بالإضافة لقدرة "العدو" الإسرائيلية على اختراق الجسد العربي.
السلام البارد
الاختراق الأول للجسد العربي لم يكن منذ بدايات العام 2017 حيث تتكاثر دعوات الانفتاح والتطبيع أو"التحالف" مع النظام العنصري في تل أبيب بشكل سرطاني، بل ربما يعود لمباحثات مدريد عام 1991 بعد تدمير العراق، أو لاتفاقيات أوسلو عام 1993 كما يعتقد عدد من المحللين.
والبعض الآخر يعيد الاختراق الإسرائيلي للعام 1979 حيث تم توقيع اتفاقيات "كامب ديفيد" بين مصر و"إسرائيل"، ولكن هذين التاريخين قد لا يشكلان بداية صحيحة بظني كما لم تكن الهرولة للتطبيع الحضاري العربي مع الإسرائيلي وليدة هذا النهار.
السلام الموصوف حقا ب(البارد) مع "إسرائيل" لم يسقط الجدار الثقافي الحضاري العربي المصري وخاصة الشعبي في مواجهة الإسرائيلي بوصفه المحتل والعنصري والأبارتهايدي الذي يبغي التوسع الاستعماري بكل الأشكال في جسد الأمة، كما إن اتفاقية أوسلو على ما عليها من ملاحظات لم تشرعن الهرولة العربية مطلقاً، حيث ارتبطت بوضوح منذ العام 2002 بتحقيق الاستقلال الوطني لدولة فلسطين ثم يحصل الاعتراف السياسي العربي، والذي لم يعني للحظة أن يتماهى الثقافي الفكري والجماهيري مع السياسي بما يعني أن التصدي للمشروع الصهيوني التوسعي الاقصائي العنصري المسيطر على الدولة في "إسرائيل" اليوم وهو المشروع الفكراني (الإيديولوجي) مازال بحاجة.للمقاومة من الأمة بكامل طاقتها لا الانسحاق أمامه، وهي المستهدفة.
قناة الاختراق الثقافي
إن لحظة الحقيقة التي يجب أن نواجهها ولا نغفلها أبدا فنوزع الاتهامات يميناً أو يساراً ما درجت عليه الأقلام التي تستسهل التعليق على الشابكة ووسائل التواصل الاجتماعي هي لحظة وضع الأصبع على الجسر الذي عبرت من خلاله دولة (إسرائيل) لقلب العالم العربي بأناقة وسلاسة وقوة، وهي بلا جدال عبر قناة الجزيرة والتي أنشئت في العام 1996 فجعلت و لأول مرة الإسرائيلي وروايته وظهوره على الناس وفي كل بيت عربي متاحاً، بل ومرحبا به ، فكسرت الحاجز النفسي ودجّنت المشاهد الذي أصبح يألف الرواية الإسرائيلية الكاذبة، كما ألِفها في كتب التراث التي تعج بها لدرجة الطفحان فما الفرق؟
إن العقل التخريبي الذي جعل من أداة إعلامية مثل الجزيرة تتعملق بالأموال الإسرائيلية، والزيارات المتكررة و(التبني الضمني) للرسالة والرواية الصهيونية هو الذي فعل فعله في إفساح المساحة للاختراق والغزو الثقافي والفكري لعقل الجماهير قبل أن تتخذ المنصات الإعلامية الاجتماعية على الشابكة نفس الدور بل أنني أكاد أجزم أن البوابة العريضة التي فتحتها قناة الجزيرة أمام الرواية الصهيونية والإسرائيلية كانت المقدمة الضرورية للتقبل الحاصل للإسرائيلي من خلال (التواصل) عبر وسائل التواصل الاجتماعي كافة.
نجاح الغزو الفكري
إن الذاكرة القصيرة للشعوب تتلهى بما بين يديها فتسمع اليوم عن أسماء عدد من الخليجيين الذي يدعون للتعايش مع (إسرائيل) والتصالح معها قفزاً على القضية الفلسطينية ومطامع "إسرائيل" التوسعية وبعمى عن رؤية نظامها العنصري الإرهابي البشع، دون خوف ولا رهبة، ولربما يفترضون أن مرد ذلك عائد لاتفاقيات السلام كما قلنا، وبرأيي هم مخطئون فرغم العلاقات السياسية بين مصر و"إسرائيل" وغيرها، فلم تفتح القاهرة ولا عمان ولا فلسطين بوابة الغزو الثقافي والحضاري والفكري للكيان الصهيوني بل ولم يظهر من الكُتّاب أو الحركات ما نراه من البعض حديثا على الشابكة أو في الإعلام.
إن حقيقة التأهيل النفسي وكسر الحاجز بل وتقديم الإسرائيلي في بيت كل عربي كان سياسة أمريكية إسرائيلية تعانقت مع قناة الجزيرة المحاطة بالقواعد العسكرية الأمريكية من كل حدب وصوب، ومن قام بإنشائها من عرب وإسرائيليين، وهي البوابة الواسعة التي مكّنت رجل عنصري ومتطرف مثل "نتنياهو" يتبجح اليوم أنه يقيم تحالفاً مع العرب ضد إيران، ويرتبط بعلاقات مع 12 دولة ويعتبر أن المشكلة في الجماهير العربية! التي يعتقد انه من المتوجب أن يتوجه لها، ليدجنها ويخترقها ويطوّعها، وهو لم يقل ذلك إلا بعد أن اطمأن (للتحالف العربي الإسرائيلي) لتصبح مهمته الرئيسة اليوم اختراق الجسد العربي والعقل العربي والثقافة العربية والإسلامية.
لن ألوم مجموعة من المدوّنين أو أشباه الكتّاب أو السفهاء الذين بدأوا يتغنون واهمين ب"إسرائيل" ثقافيا وحضاريا، بعد أن تدفقت المياه في النهر الحضاري العربي حتى انهار السد.
هزالة المحاور وقافلة "نتنياهو"
لقد سقط (محورالمقاومة) أمام سنابك خيل الاستعمار الأمريكي الروسي الصهيوني، خاصة في سوريا والعراق، كما سقط (محور الاعتدال) أمام إغراء "العدو البعيد".
وبهذا الانهيار يقف نتنياهو فرحاً ضاحكاً ملء شدقيه منتظراً اليوم الذي يستطيع أن يحج فيه إلى مدينة قم المقدسة في إيران، ثم إلى مدينة مكة، ويوزع بالطريق الطويل ما بينهما العطايا على القرى والمدن ومضارب البدو التي تترقب قافلته المتهادية بثقل احمالها، آمنة مطمئنة!
إن مسؤولية انهيار السد أمام الغزو الثقافي والتاريخي والحضاري الإسرائيلي للأمة لا تقع على الأفراد أبداً، وإنما تقع على الحكومات وعلى السياسات من جهة، كما تُحسب للقدرة الإسرائيلية الفائقة على إحداث الشروخ بالأمة واختراق العقل العربي وفي ذلك تقف مشدوها أمام الاستخدام الإسرائيلي المتطور لمنصّات التواصل الاجتماعي التي لا يقابلها عربياً أو إسلامياً أو فلسطينياً أي رد مماثل.
تتلهى محاور الأمة بين "ممانعة" و"اعتدال" بحروبها الداخلية ظانة أن "الإرهاب" الاسلاموي هو همّها متجاوراً مع عدائها لبعضها البعض (العداء الفارسي- العربي) (والعداء الشيعي – السني) وهي رغم أن خطر الإرهاب الديني لا يُنكر، ورغم أن خطر الهيمنة على جسد أمتنا مشهود، من القوى الإقليمية لكنه لا يرقي أو لا يجب أن يرقى لمستوى خطورة المخطط الصهيوني الاستعماري العنصري والثقافي لتدمير الأمة في قلبها وعقلها أي في ثقافتها وحضارتها وفكرها واقتصادها وقيمها، وهي منبع تماسكها ووحدتها المقصود ضربها الى الأبد.
لن نتلهى بالمناكفات بين دولة قطر ومحورها "المقاوم" أو "المساوم"، أو بين السعودية وإيران رغم التوسع الخارجي المرفوض في جسد أمتنا العربية من الغرباء، ولن نستعدى هذا الحزب أو ذلك رغم خطورة المسعى بتوجيه البندقية للداخل العربي لأن الخطر الأكبر يكمن بين الضلوع أي في ثقافتنا وعقلنا.
عرفات والحصانة
نحن معاً وسوياً كما كان يردد الثائر العربي والأممي الخالد ياسر عرفات (على القدس رايحين شهداء بالملايين) ويقصد الملايين من كامل الأمة العربية والإسلامية، ما يُفهم منه الاستنهاض الدائم، فالدرب طويل، ونحن معاً وسوياً لن نسمح بسقوط فكرة الحضارية والعروبة والوحدوية، ولن نسمح بسقوط السد الثقافي والفكري والحضاري العربي والشعبي الحصين في مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي المهيمن،ما يتمثل بـضرورة المواجهة الشاملة ل :
الفكر الاستهلاكي للعربي المنسحق أمام الآخر.
الفكر الماضوي الإقصائي، المتفاعل مع حثالات التاريخ.
هيمنة السلطان وتطويعه لاتجاهات الشعوب بعيداً عن النهضوية.
تأجيج الطرح الطائفي والقبلي لمصلحة السياسة والاقتصاد، والهيمنة الإقليمية.
ركوع القادة لتقبيل أقدام الجميلات، ووهم السير بدرب التقدمية.
فجور الخلاف العربي والإقليمي وتعملق الهوى الشخصي، واستسهال استباحة دماء الشعوب.
المثقف والتلهي بالآني على حساب الرئيسي
لن ننزّه أنفسنا كسياسيين ومثقفين ومفكرين ومؤرخين وكتّاب وإعلاميين وكوادر وناشطين من الانخراط اللذيذ في معاركنا الداخلية التافهة أو الممكن تأجيلها، في الآني، في الزائل، في المناكفات، في اختراع المواضيع والخلافات، على حساب السراطي (=الاستراتيجي).
فنحن من انخرط بالثانوي على حساب الرئيسي ما أتاح للإسرائيلي أن يجد الثغرة التي عمل عليها طويلاً ويوسعها تارة باسم الديمقراطية الموهومة في كيانه، وتارة باسم التعاون الأمني ضد إيران، سواء من بوابة الفضائيات والشابكة والتواصل الاجتماعي الخلفية أو عبر طاولات الحوار المخفي التي تحفل بالسموم والأكاذيب والوجوه ذات الضحكات الصفراء ، وتارات وتارات بدعمه للصراع الطائفي الذي قفز فجأة في عالمنا العربي وكأنه كان كامنا ينتظر لحظة الاشتعال، ولا شك لدي من وجود الأصابع المحلية وتلك الغربية، وقطعاً الإسرائيلية وبالدليل.
إن التقدم الصهيوني الواثق في بتر أطراف الأمة، وإلهائها في حروب داخلية طائفية- وقبلية وسلطوية- بل وضمن الطائفة الواحدة (وهو ذات ما يفعله يومياً في داخل فلسطين بإصرار وحنكة وبلا مواربة) قد مكّن لها أن تحتل مكانة مرموقة! عند أراذل العرب رغم عنصريتها وعدوانها واحتلالها وعقلها ومشروعها التوسعي فترى القبول في وجوه السفلة بلا حسيب أو رقيب.
الألف بداية الحل والأبجدية
إن الارتباط بالمبادرة العربية التي أعلنت في بيروت عام 2002 والتي منع فيها النظام السوري الخالد ياسر عرفات أن يتحدث من حصاره، وهو النظام الذي ما زال يتغنى ب"المقاومة" وعلى جماجم آلاف الشهداء، هي المبادرة السعودية التي تجعل من الياء نهاية الأبجدية وليس بدايتها، كما دأب وكرر الرئيس أبو مازن، وبلفظ آخر نحن نريد تطبيق المبادرة العربية من الألف إلى الياء وليس العكس، وبمعنى أن حل القضية الفلسطينية هو البوابة الحقيقية للسلام لا الالتفاف على المبادرة والضحك على ذقون العرب بالتموضع ضمن مساحة لقاء موهومة ضد خطر مفترض على الطرفين.
إن حل القضية الفلسطينية بمعنى تحقيق الاستقلال الوطني لدولة فلسطين المحتلة عام 1967 القائمة بالحق الطبيعي والتاريخي والقانوني هو الأساس لما يليه في المبادرة العربية وليس العكس أبدا، ولمن لا يفقه شيئا ولا يفهم بالسياسة فإن هذا لا يعني مطلقا أن نسهم في انهيار السد الفكري والثقافي والحضاري والتاريخي.
الخطر الأيديولوجي الصهيوني
إن الكيان الصهيوني يظل كيانا استعماريا عنصريا "ابارتهايديا" احتلالياً، فهو الكيان الذي يحمل عقلية وأيديولوجية عنصرية اقصائية احتقارية تدميرية للعرب وللمسلمين عامة، فليفهم السفهاء والسخفاء والتائهين بين مقاطع "السنابشات" وأحضان "الفيسبوك" ومقاطع "اليوتيوب" ذلك، ولا يتوهون أو يسقطون في بئر الخطيئة الإسلامية والقومية والمسيحية. .
إلى أن يصبح الفلسطينيون في أراضي الـ48 مواطنين متساويين في بلدهم بلدنا فلسطين، فلا يتوهم الخوّارين أن القضية تنتهي بالاستقلال لدولة فلسطين على حدود العام 1967 فقط، فالصراع طويل ومن تعِب فليرينا ظهره ولا يلقي علينا بزبالة خيالاته وأوهامه الممجوجة.
إننا أمة عربية إسلامية،أمة واحدة وفي سياقها الإسهامات المسيحية الشرقية جسم متميز منفتح على الحضارات نعم، ولكنه فريد ومتميز، ومن يريد أن يكون جزء من هذا الجسد فله أن يتنمط ثقافياً وفكرياً وقانونياً بالمبادئ القيم العالمية التي نحن منبعها، ولسنا تبعا لها، ولن نكون تبعا للعقل الاستعماري والاحتلالي العنصري التوسعي الذي قد يتخلى عن الغزو الجغرافي مؤقتاً، ولكنه يغزونا اليوم ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها