ستبقى أزمة تواجد مكتب منظمة التحرير في واشنطن قائمة كأداة ضغط تمارسها الولايات المتحدة على الفلسطينيين لدفعهم للاستجابة والقبول بالشروط الإسرائيلية. وهذه الأزمة تعود لعام 1987 عندما أصدر الكونغرس الأميركي قراراً بعدم وجود أي تمثيل لمنظمة التحرير في الولايات المتحدة تحت تأثير اللوبي الصهيوني والسياسة الإسرائيلية التي كانت ترى في وجود هذا المكتب اعترافاً أميركياً ولو ضمنياً بالدولة الفلسطينية، وهو ما تعارضه إسرائيل حتى الآن.
ولعل السبب الآخر محاولة النأي عن أي حضور فلسطيني في الأمم المتحدة. لكن صورة الموقف قد تغيرت بعد اتفاقات أوسلو عام 1993 وقبول الفلسطينيين بخيار التسوية السياسية والمفاوضات، واعترافهم بإسرائيل كدولة، هذا الموقف دفع الرئيس كلينتون لاتخاذ قرار يقر فيه بحق الفلسطينيين في تواجد تمثيل لهم، بفتح مكتب لمنظمة التحرير في واشنطن، لكن التناقض في الموقف الأميركي أنه لم يلغ القرار أو القيد الذي فرضه عام 1987، وبقي قرار فتح مكتب المنظمة بيد الرئيس الأمريكي الذي يصدر قراره كل ستة أشهر يقيم فيه مدى التزام الفلسطينيين بمتطلبات عملية السلام والمفاوضات، من نبذ للعنف، وعدم الذهاب للمحافل الدولية التي تحاصر إسرائيل.
ولهذا السبب صدر ما عرف بقانون تسهيل السلام. هذا القيد الجائر، والذي يعبر عن انحياز السياسة الأميركية لإسرائيل هو الذي يقف وراء التأجيل الأخير بتجديد مكتب منظمة التحرير. وبقيت ورقة المنظمة بيد الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته. فالرئيس السابق بوش الابن، خفض حجم التمثيل، ثم جاءت إدارة الرئيس أوباما التي كانت أحسن حالاً، ورفعت مستوى التمثيل لمفوضيه، ورفض وزير خارجيته، جون كيري، طلباً لـ 52 عضواً في الكونغرس عام 2015 بغلق مكتب المنظمة لأنه يضر بالمصالح الأمريكية العليا، وبالدور الذي تقوم به الولايات في احتكار العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
اليوم يتجدد هذا التوظيف السياسي من قبل الرئيس ترامب ووزير خارجيته تيلرسون بعدم التجديد، ورغم «التراجع» عن هذا القرار فما زال قائماً، ويخضع لحسابات السياسة الأمريكية وضغوطات اللوبي الصهيوني، ومرهون بالموقف الفلسطيني من عملية السلام أو ما يعرف اليوم بصفقة القرن التي تتحدث عنها إدارة الرئيس ترامب. إذن التراجع جاء مع الحديث عن صفقة القرن، والتي يتوقف نجاحها على استجابة الفلسطينيين للضغوطات الأمريكية، فمعادلة صفقة القرن تقوم على مزيد من التنازلات الفلسطينية كعدم معارضة التواجد الاستيطاني، وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين، والقبول بأقل من دولة ، وعدم الذهاب للمحكمة الجنائية، والتوقف عن الحراك الدولي في المنظمات الدولية.
هذا الموقف وهذه الشروط كالسيف المسلط على رقاب الفلسطينيين مصحوباً بالتلويح الاقتصادي ووقف المساعدات، وتدرك الولايات المتحدة أن قرار الغلق يعني الفشل المسبق لصفقة القرن، وغلق هذا الملف. لقد أبدى الفلسطينيون موقفاً قوياً في مواجهة الضغوطات الأمريكية، لأن المسألة ببساطة وبحسابات الربح والخسارة ، هي أن وجود مكتب المنظمة وهو أقل من مكتب دبلوماسي لا يساوي حجم الخسارة التي يمكن أن يخسرها الفلسطينيون لو استجابوا للضغوطات الأمريكية الإسرائيلية، ولم يحصلوا على الحد الأدنى بقيام الدولة الفلسطينية.
وتفرض أزمة تمثيل منظمة التحرير المتجددة مراجعة تقويمية نقدية فلسطينيا للعلاقات الأمريكية الفلسطينية، مع الإدراك الفارق الكبير في أدوات التأثير والضغط. وصحيح إن الفلسطينيين لا يمكن أن يضعوا أنفسهم في مقارنة مع الولايات المتحدة من حيث القدرات، فالدول تخضع لمساومات السياسة الأمريكية، لكن الوضع الفلسطيني قد يكون مختلفا. فالفلسطينيون يملكون من التأثير ما يؤثر على الدور الأمريكي في المنطقة وبيدهم مفاتيح كثيرة لحل قضايا المنطقة، ومن ناحية ثانية قضيتهم ووجودهم مرتبط ببقاء وأمن إسرائيل وهما من ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.
هذا التأثير لا يمكن التقليل من أهميته في تقنين العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي مواجهة هذه الضغوطات وربطها بعملية السلام والمفاوضات، ويمكن للفلسطينيين أن يرفعوا من سقف تمثيلهم في الولايات المتحدة والمطالبة بوجود سفارة لهم أسوة بدول أخرى إذا أرادت الولايات المتحدة لصفقة القرن أن تتقدم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها