بشارة مرهج

القدس وجه الحضارة الإنسانية، وصفوة اللقاء بين الشعوب والأمم، إنها قلب العالم الذي نبض منذ فجر التاريخ. رسالتها خالدة على مدى الدهور، ترسمُ السلام، وتُحيي الأمل، وترتقي بالناس إلى الأسمى. لكن في غفلة من الزمن تراخى الحماة وتوارى الملوك والرؤساء فاستولت عليها قوى التعصب والعدوان والاحتلال فأمست القدس قيمة منسية تذُكر في المناسبات وتذكرنا كيف يكون الانسلاخ عن التاريخ والدين والذات. كأنها قفر في متاهات الغربة، أو مدينة غريبة في مدارك الرؤية، أو بقايا ذكرى تنازع داخل خيال يتمرد. «يمدهم في طغيانهم يعمهون»، وما علموا إن جوهرها واحد في كل زمان ومكانتها مقدسة لدى الأديان.

وإذا نجح الاحتلال في تشويه المعالم، ومصادرة الحقوق، وتزوير الحقائق ومحاصرة الأطفال، وتهجير العائلات، وانتهاك الحرمات، وطعن الأقصى بالخناجر المسمومة، والتعرض «للقيامة» بالرماح المسنونة، فإنه لن ينجح في اقتلاعها من قلوبنا وعقولنا، ولن ينجح في إسقاط مهابتها وقداستها. فالقدس لن تسقط مهما أشاح بأنظارهم من تعهدوا حماية المقدسات والأكناف والحجارة العتيقة التي تنطق بلسان الرسل والأنبياء، وتسجل مآثر الذين ساروا على طريق صلاح الدين والأبرار والصالحين.

فمهما جرّحوا في جبينها، ومهما دكّوا من منازلها، وزلزلوا من شرفاتها، ومهما غيّروا من عناوين، ومهما فتحوا من زنازين، ومهما حفروا من أنفاق ومهما نقضوا من اتفاق ستبقى القدس بإرادة أبنائها وأبناء فلسطين وكل الأحرار درة المدائن، وألق الزمان عصية على الغزاة والمارقين، تئن من الألم ولا تستغيث، تنزف دماً ولا تستجير.

القدس ليست بحاجة إلى أحد فمن كان مثلها قوياً بذاته وإيمانه لا يعوزه شيء. نحن الذين نحتاج إلى القدس توحدنا قبضة قوية في وجه الاحتلال والضلال، تحررنا من أمواج التعصب والرياء. نحن الذين نحتاج إلى القدس كي نعود إلى ذواتنا، إلى طريق الأباء والأجداد إلى المسالك المضيئة، الى طريق الجلجلة والخلاص، إلى كنف الإسراء والمعراج.

مساحات «الحرم» ليست بحاجة إلينا لأنها أقوى من كل معتد ودخيل، نحن بحاجة إلى العودة إليها كي نستعيد ماء الوجه، وما تبقى من احترام للذات يفر كل يوم من بين ضلوعنا. أجراس «القيامة» ليست بحاجة إلينا لأن ألسنة الجحيم لن تقوى عليها. نحن بحاجة إلى «القيامة» نخوض معركتها، فنخسر الصديد الذي طغى، ونكسب صفاء الروح، ونستلهم حرمة الصلاة حيث يفيض النور لنهاية الأزمان.

واليوم إذ نلتقي حول بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ترنو عيوننا إلى جهود لم تُبذل بعد لنصرة المدينة المطعونة بسيف الاحتلال... ترنو عيوننا إلى قوى المقاومة وهي ترفع راية فلسطين وتهرع نحو القدس الحبيبة. هناك أرض الجهاد الحقيقي، وهناك يطيب الركوع والدعاء والنضال. فالعنفوان جريح، والوجدان ذبيح والكرامة منتقصة، والعزة منتهكة حتى تتوجه النفوس نحو القدس، وتتحلق القلوب حول القدس، وتتوحد البنادق باتجاه القدس.