لاشك بأن "الثورات" العربية المتفجرة، في العديد من البلدان وضعت المنطقة العربيةوانظمتها ودولها امام مرحلة مستقبلية جديدة، مفتوحة ليس أقلها اعادة رسمها وتشكيلهاعلى اسس جيوسياسية جديدة بل تتعداها الى احتمالات بلورة هويات كيانية جديدة. لم يكنوحتى الأمس القريب يتصورها حتى اكثر المحللين تشاؤماً. واذا كان صحيحاً بأن كل ثورةمن هذه الثورات، تختلف من حيث المبدأ عن سواها طبقاً لطبيعة تشكل المجتمعات الاجتماعيةوالطبقية وحتى السياسية. وهو الذي انعكس على طبيعة هذه "الثورات" التي لمتتوافق فيما بينها سوى على التسمية فقط، ولهذا اختلفت تفاصيل هذه الثورات عن بعضهاالبعض ولهذا نجد بأن النموذج التونسي الذي كان الاسرع في انجاز ثورته واسقاطه لنظامزين العابدين بن علي بأقل التكلفة البشرية والفترة الزمنية وهو ما لم يتوفر حتى الآنلكل "الثورات"، فالثورة المصرية على سبيل المثال والتي كانت التالية بعدالتونسية فهي وان كانت قد استطاعت اسقاط النظام ورمزه حسني مبارك، الا انها ادت الىدخول مصر في نفق مظلم في حال استمراره وعدم تداركه قد تصل الامور الى ما لا تحمد عقباها.
فما يجري حالياً في مصريحمل ملامح خطيرة جداً. يُخشى معها من انزلاق المجتمع المصري الى اتون اشكالية طائفيةيجمع عليها الجميع بأنها ولدت مع "الثورة"، طبقاً لما قاله هؤلاء وبأن الوضعالحالي في مصر ليس نتيجة هجمة سلفية او خلافات مسيحية – اسلامية كانت موجودة في المجتمعالمصري، الا انها ليست حوادث فردية بل هي عوارض مرض خطير اصيب به المجتمع المصري برزتملامحه خلال الايام القليلة التي سبقت اسقاط النظام، اذ كانت بدايتها التفجير الارهابيلكنيسة القديسين في الاسكندرية والتي اتضح فيما بعد بأن من كان يقف وراءها وزير الداخليةالأسبق حبيب العدلي الذي يُحاكم هذه الايام في هذه القضية الى جانب تهم أخرى ستكشفهاالايام القادمة على الرغم من محاولات السلطة آنذاك ايهام الرأي العام بأن من كان يقفوراءها قوى اصولية خارجية.
لكنالخطير في هذا الامر هو تكرار مثل هذه الحادثة كما حدث في تفجير احدى الكنائس في قلبالعاصمة القاهرة وما حدث في احداث امبابة، التي اصابت الجميع بالذهول والارباك بسببالسرعة في اشتعالها وضخامة نتائجها البشرية والاجتماعية الخطيرة. من هنا فان الحديثعن امكانية ايجاد حلول لمثل هذه القضايا يستوجب من كل القوى السياسية المصرية الحيةوعلى رأسهم المجلس العسكري الذي استلم زمام الامور فور اسقاط الرئيس مبارك، اطلاق اوسعحالة تفاعل فيما بينها وايجاد الصيغ المناسبة لاعادة الشعب المصري الى اصالته والذييعتبر مثل هذه الحوادث غريبة عنه وعن مفاهيمه.وبالتالي ضرورة التنبه الى مثل هذه الحوادث،التي قد يكون يقف وراءها الكثير من الاجهزة التي تضمر شراً للشعب المصري ليس اولهاولا آخرها النظام السابق نفسه بل تتعداه الى كثير من الدوائر الخارجية التي تسعى الىفرط المجتمع المصري واعادة تشكيله طبقاً للرؤية الجديدة والاجندة – الشرق - اوسطيةالتي مازالت معالمها تحوم في سماء المنطقة كلها.
والىذلك لا بد من الحديث عن "الثورة" الليبية التي اتخذت بدورها منحى مختلفاًعما جرى في كل من تونس ومصر وهما المجاوران له من الجهتين الشرقية والغربية. فما يجريحالياً في الجماهيرية الليبية من اصطدام مسلح اشبه بالحروب الحقيقية تخطى مرحلة الثورةوالاحتجاج ضد النظام لتصل الى مرحلة من الحروب العشائرية والقبلية التي تتميز بها تركيبةالشعب الليبـي. وبالتالي فان هناك مخاطر جدية لحدوث انقسام جغرافي ما بين شرق وغربتغذيه مشاريع اتضح فيما بعد بأنها قد تكون ضد المجتمع الليبـي والذي يعتبر التدخل الامريكيوحلف الناتو طرفاً في النـزاع احدى ابرز علائم الاجندة الخفية. وهو ما يطرح اكثر منعلامة استفهام حول الاهداف الحقيقية "للثورة" الليبية. وحول دور المجلس الانتقاليالذي يقوم بتشجيع الغرب للتدخل مما قد يؤدي لاحتلال ليبيا على طريقة المثال العراقياو عرقنة ليبيا فيما بعد.
ومايجري في المثال اليمني قد يكون مختلفاً عن الامثلة الأخرى الا انه ايضاً يحمل في طياتهامكانية اطالة امد "الثورة" وبالتالي اراقة الدماء اليمنية، خصوصاً وان الرئيساليمني مازال حتى الآن قادراً على التحكم بنسبة كبيرة من الشعب اليمني الموالي له والذييسمح له حتى اللحظة بالوقوف في وجه "الثورة" وهذا ما يفسر فشل جميع المبادراتالتي انطلقت لحل الازمة اليمنية وعلى رأسها المبادرة الخليجية والتي يلوح في أفقهاوصولها الى الفشل المتعمد تهيئة لدخول اليمن في مرحلة جديدة يصبح فيها الحديث عن الوحدةبين اجزائه شيئاً من المستحيل والخيال. وأخيراً فان "الثورة" السورية بدورهابدأت ترسم لنفسها طريقاً ونموذجا"جديداً يختلف عما يجري في الثورات الاخرى، حتىوإن تشابه معها في بعض التفاصيل فصحيح انها حتى اللحظة لم تصل الى مستوى "الثورة"الليبية وحربها المفتوحة ولا الى مستوى المثال اليمني الذي تتجلى ابرز سماته بانشقاقواضح في تكوين المجتمع المهدد.
"فالثورةالسورية" والتحركات الجماهيرية التي تلقى حالة من القمع الشديد والقبضة الحديدية من النظام وهو الذي يؤشر الى اطالة امدهاوبالتالي اطالة امد إراقة الدماء بين المؤيدين للنظام ومعارضيه والتي تهدد لا سمح اللهفي حال تطورها الى ظروف لا تحمد عقباها ولا يتماناها احد.والتي لا يستطيع احد التكهنبنتائجها خصوصاً في حالة اتساع نوعية الاسلحة المستخدمة من كلا الطرفين. وفي الختاملا بد من الاشارة الى ان هذه الثورات توافقت على وحدة الشعارات والاهداف التي ما زالتحتى اللحظة تبدو جذابة وبراقة في عيون الجماهير العربية وشعوبها التواقة منذ امد بعيدوللأسف لمثل هذه الشعارات والتي وجدت الكثير من الوسائل الحديثة والتكنولوجية لتسويقهاواطلاقها، ولعل هذه المفاهيم والاهداف لاقت صداها على مشهدية سياسية هامة تجلت في انشاءالاخوان المسلمين ولأول مرة في تاريخهم حزباً سياسياً واضح المعالم والبرنامج وذهببعيداً بانضمام العديد من الاقباط الى صفوفه وصولاً الى تكليف أحد هؤلاء " الاقباط"لمنصبنائب رئيس الحزب مع انضمام العديد من المندوبين الى مجالس القيادة ولأول مرة ايضاًفي تاريخ الاخوان السياسي نرى نساءً في الهيئات القيادية في الحزب الجديد الذي بدأيتحول الى مايشبه النمط التركي بدءاً من التسمية وصولاً الى بعض التشكيلات التي تتشابهالى درجة كبيرة. وهذا يعتبر تطوراً مهماً على المستوى البنيوي والنظري والفكري الاخوانيالذي كان بدوره وحتى لحظة انطلاق شرارة "الثورة المصرية"حزباً في الخيالوالمحال.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها