قبل63 عاماً أي في سنة 1948، كان الجولان وجنوب لبنان يشهدان جموع الفلسطينيين وهي تنزحفي طوابير طويلة نحو المدن اللبنانية والسورية. اليوم، وبعد 63 عاماً بالتمام، ها هيقوافل اللاجئين تنطلق عبر الجولان وجنوب لبنان إلى فلسطين، أي في الاتجاه المعاكس.
لمتسقط الحواجز والأسلاك الشائكة الإسرائيلية في 15 أيار 2011 فحسب، بل سقطت معها تلكالمقولة اللئيمة التي رددها دافيد بن غوريون كثيراً حين كان يُسأل عن مصير اللاجئينالفلسطينيين، وهي: "الجيل الفلسطيني اللاجئ سيموت في المنافي، والجيل الثاني سينسىفلسطين، والذين ظلوا في إسرائيل يمكن السيطرة عليهم".
كانتتلك نبوءة فاسدة حقاً، فها هو الجيل الثالث من اللاجئين أكثر تشدداً من آبائه وأجداده.وهذا الجيل الذي اكتوى بجروح النكبة، وبالذاكرة الموشومة بالنار، أي بالمجازر والطردوالنبذ، يعيد الاعتبار اليوم إلى ذاكرته المشطورة التي طالما نُسجت بالتذكر والحنينوالحلم. والذاكرة المشطورة هي ذاكرة ناقصة، لأنها تشكلت في المنفى، وفي المخيم، أيفوق أرضٍ غربيةٍ كانت تنبذه أحياناً، وتعزله أحياناً، وتتهمه أحياناً أخرى ببيع أرضهوالهرب من المكان الأصلي. لذلك كان تحطيم الأسيجة والعبور نحو الوطن، ونحو الأرض، ونحوالمكان الأصلي محاولة لإعادة وصل الذاكرة بالأرض الحقيقية، وإلغاء ذلك الانشطار القاسي.
عاشالفلسطينيون، منذ بداية 2011 تقريباً، حائرين ومتسمرين أمام شاشات التلفزة.
فهمغير قادرين على مناصرة الثورة في تونس ومصر، وفي نفس الوقت كانوا جزعين لأن الحدث الفلسطينيراح يتراجع في أولوية الناس. وما إن اقتربت ذكرى النكبة، حتى رأى كثيرمن شبان المخيماتأن هذه الذكرى لن تكون مثل سابقاتها، ففي السابق كان يتم إحياء ذكرى النكبة بالخطبوالمسيرات المحدودة. لكن، منذ 15 أيار 2011 فصاعداً ستكون هذه الذكرى مناسبة للتصادمالمباشر مع الاحتلال، ولاقتحام الحدود على غرار ما وقع في الجولان وفي مارون الراسبجنوب لبنان، وللعودة الجسدية والرمزية إلى الأرض المفقودة، حتى لو كانت هذه العودةخاطفة أو مؤقتة.
في15 أيار 2011 أسقطت مجموعة من الفتية الفلسطينيين مقولة أمنية راسخة لدى إسرائيل حينأسقطت أجزاء من السياج الحديدي عند الحدود مع فلسطين. فقد توهمت إسرائيل أن حدودهامحمية بالأسيجة وبالجيوش العربية وبالقوات الدولية، وبالاتفاقات الأمنية المعروفة.لكن ذلك كله سقط خلال دقائق. وها هم "مفكرو" أركان الجيش يتدارسون الاحتمالالواقعي التالي: لقد ذُهل الجنود الإسرائيليون في الجولان وارتبكوا أمام أقل من2000 فلسطيني وصلوا إلى السياج الفاصل. وتملك الذعر الجنود الإسرائيليين عند بلدة مارونالراس حين شاهدوا نحو 500 فلسطيني يندفعون نحو الأرض الفلسطينية، فعمدوا، جراء الذعر،إلى إطلاق النار عليهم. ماذا سيفعل الإسرائيليون، في هذا الحال، بالموجات البشرية المئة ألفية التي ربما تتقاطرمن حدود البلدان العربية، ولا سيما لبنان وسورية والأردن؟ وماذا سيفعل جيش الاحتلالفي ما لو تدفق الفلسطينيون في الضفة الغربية، واجتازوا المستوطنات والجدار والعوائقنحو قراهم الأصلية؟
إنهامعضلة حقيقية لإسرائيل لا ريب في ذلك. ها هو الشتات الفلسطيني يضع مجدداً ملحمته التاريخية،ويعيد الاعتبار للاجئين ولحقهم في العودة إلى ديارهم.
بينسنة 1917 وسنة 1948 كان الصراع في فلسطين، في أحد وجوهه، صراعاً مجتمعياً بين الفلسطينيينأصحاب الأرض التاريخيين والمهاجرين اليهود. أي أنه كان صراعاً بين العرب في فلسطينوالمجموعة اليهودية الاستيطانية.
لكنهذا الصراع المجتمعي تحول بين سنتي 1948 و 1967 إلى صراع إقليمي ودولي. وفي هذه الحقبةكان دور الفلسطينيين في تقرير مصيرهم محدوداً، وعاشوا تحت سيطرة السلطات العربية. أمابعد هزيمة حزيران 1967 فقد امتلك الفلسطينيون زمام أمرهم إلى حد كبير، ولا سيما معانطلاقة "حركة فتح" في 1/1/1965، ثم تطورت الهوية الوطنية الفلسطينية منهوية لاجئين إلى هوية شعب يريد تحرير وطنه. وتحولت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى تيارسياسي ذي شأن في تقرير مصائر الأمور حتى في إسرائيل نفسها. لنتذكر أن يغآل عمير الذياغتال اسحق رابين زعم، في معرض تبريره عملية الاغتيال، أن رابين لم يتمكن من تمريراتفاق أوسلو في الكنيست الإسرائيلي إلا بأصوات النواب العرب، أي أن الفلسطينيين، بحسبيغآل عمير، باتوا شركاء ، إلى حد ما، في تقرير مصير إسرائيل. وفوق ذلك، فإن من المثيرحقاً، بل من اللافت، أن بنيامين نتنياهو الذي يمتلك قوة الدولة المدججة بالسلاح وبالدعمالأميركي، والذي يمارس الغطرسة على الفلسطينيين، يحتاج إلى اعتراف الفلسطينيين بحقاليهود في تقرير مصيرهم في دولة يهودية خاصة بهم. أي انه يريد أن يحل لإسرائيل مشكلة1948 ومشكلة 1967 من غير أن يقدم أي حل للقضية الفلسطينية التي نشأت في سنة 1948 وتفاقمتفي سنة 1967 فصاعداً، ويريد إقفال هذا الملف قبل أن يفتحه جدياً. فهو يطالب الفلسطينيينبالتنازل عن حق العودة قبل أن يعترف بهذا الحق. ويريد ضمان السيطرة على القدس وبعضمناطق الضفة الغربية من دون أن يعترف بالسيادة الفلسطينية على هذه المناطق.
إذاكانت منظمة التحرير الفلسطينية لا تمتلك السيادة التاريخية على الأراضي الفلسطينية،بحسب بنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني كله وبعض شظايا اليسار الصهيوني أيضاً، فلماذايطالب هذا اليمين منظمة التحرير الفلسطينية بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ويريدمنها، في الوقت نفسه، التسليم بسيطرتها على تلك الأراضي؟ والجواب هو أن مصير إسرائيلبات مرهوناً بإرادة الضحية، أي الفلسطينيين. وإن اعتراف العالم بإسرائيل الذي كان كافياًلها في الماضي، ما عاد كافياً اليوم على الإطلاق. فالمسألة اليهودية، الأوروبية المنشأفي الأساس، لا يمكن حلّها إذا لم تحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً طبقاً لإرادة الفلسطينيينأنفسهم.
هناكهلع حقيقي لدى الجهات الأمنية الإسرائيلية، فهم يتوقعون أن يتدفق الفلسطينيون، في لحظةمواتية، على المستوطنات لإزالتها، وعلى القدس لإلغاء جميع العوائق التي تحول دون الوصولإليها، وعلى قراهم الأصلية في الجليل وغيره كي يتشبثوا بالبقاء فيها. وسيكون هذا التدفق،كما يتوقع الإسرائيليون، سلمياً ومدنياً، وبطريقة منظمة وراقية بحيث لا تستطيع أي دولةأن تقف ضدها البتة.
ماذاتستطيع إسرائيل أن تفعل في مواجهة تنفيذ حق العودة بأيدي اللاجئين أنفسهم؟ هل ستطلقالنار على جموعهم، الأمر الذي يحوِّلها من دولة محتلة كما هي اليوم، إلى دولة مارقةكما هي بالفعل؟ غير أن السؤال الرئيس، في هذا السياق هو التالي: ما هي خطة الفلسطينيينلإنهاك إسرائيل، ولتحويل احتلالها المناطق الفلسطينية إلى خسارة صافية؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها