بقطع النظر، عن كل ما يقال الآن في سياق السجال المندلع مجدداً، بعد تسريب محضر اجتماع الدوحة الثلاثي؛ يتوجب القول إن قطاع غزة المدمر، لن يتلقى مساعدات إعادة الإعمار ولن يستعيد الناس فيه قدرتهم على الحركة، ما لم ينشأ وفاق فلسطيني حقيقي، له مفاعيله على الأرض. وهذا الشرط الموضوعي الذي يحسم المتدخلون للمساعدة أمرهم فيه، بناءً على شواهده، إيجاباً أو سلباً، وهو يتطلب سياسة جديدة للأطراف في الساحة الفلسطينية. وليس ثمة فائدة من ديكورات الوفاق وعناوينها العامة والفضفاضة. فالآخرون يريدون براهين على الأرض في غزة، تؤكد أن الحكومة الفلسطينية الوفاقية، هي التي تحسم الأمور، في الأمن قبل كل شيء، علماً بأن الأمن هو تحديداً الذي لم تكن ثمة صيغة لتمكين حكومة الوفاق من الحسم فيه.
هناك خطان لشرعيتين متناقضتين على أرض قطاع غزة، أحس الناس بضرورة وجودهما: الشرعية الدستورية، وشرعية المقاومة التي يسميها القانونيون الشرعية الثورية وهي ظاهرة تاريخية، حظيت باعتراف أممي، بحق الشعوب المحتلة أرضهم في مقاومة المستعمر. وقلما وجدت شرعيتان على جغرافيا واحدة. لكن طبيعة "أوسلو" التي تأسست السلطة بموجبها، أوجدت الشرعيتين على أرض واحدة، لأن تطبيقات الاتفاق في السنوات الأولى، فتحت المجال للشرعية الدستورية، من خلال إتاحة المجال لبناء مؤسسات ومقومات الدولة وإطلاق التنمية وفتح الأبواب للمانحين. لكن فشل الوصول الى تسوية متوازنة، فتح المجال على أراضي السلطة للمقاومة التي هي جواب الشعوب على تعنت الإحتلال في أوطانها. ولو كان حلّ السلطة إجراء معقولاً وتحصيل حاصل، لكان الأصح هو تفكيك البنية السياسية والأمنية للسلطة قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، والعودة الى صيغة منظمة التحرير وإحالة شؤون السكان اليومية الى البلديات وتحميل الاحتلال أكلاف الاحتلال المادية والسياسية والأمنية. وفي الحقيقة، أصبح صعباً الآن في كلا الخيارين، حل السلطة وإبقائها. أما بالنسبة لغزة، فهي المساحة الباقية التي يمكن أن تتوفر لنا فيها فرصة تكريس شرعية دستورية وعملية بناء وتنمية. لكن شرط ذلك هو أن يعلم ويقتنع الفلسطينيون جميعاً، أن غزة المكتظة لا تصلح لشن حرب بقذائف صاروخية على إسرائيل. لا نقول ذلك لأننا نرفض المقاومة التي هي مشروع حياة شخصية لكل منا، وإنما لأننا نرفض الأذى ونحسب ونعرف أن النتائج ليست في صالحنا. ونكرر القول إن البلاغة والخطابة ومزاعم الانتصار لا تغير حرفاً واحداً من الواقع ولا تخفف من نكبة بيت واحد، وهذا على أية حال ليس موضوعنا.
نحن جميعاً في موضع الاختبار، ولم يعد أمامنا في غزة، سوى تكريس شرعية دستورية في هذه المساحة، وفق مرجعيات توافقية مسجلة في نصوص، وهذه هي طبائع الدساتير. الشرعية الثورية، التي هي في التاريخ شرعية المقاومة، رائعة ومحقة وواجبة النفاذ، ولكن غير الرائع وغير الواجب هو جعل غزة منطلقاً لنيران تستحث ناراً أعتى من عدو لا يتورع عن ممارسة الإبادة. إننا مكشوفون ومحاصرون. وليعلم الغافلون، أن المحتلين غادروا غزة هرباً من المقاومة، وهدفهم تأطير الوجود الاجتماعي والسياسي لأهالي غزة، باعتباره أرضاً مجاورة، يحكمها أصحابها، فإن قاوموا الاحتلال في القدس والضفة بنيران تنطلق منها، أو ردوا على العدوان عليهم بأية نيران مهما كانت ضئيلة التأثير؛ فإن الحرب الغاشمة والإجرامية تُشن بالسلاح الاستراتيجي الجوي والبحري والبري، على المقاومين والمسالمين وعلى الدور والمواقع، وعلى الشجر والحجر، وهذا لم يكن متاحاً في وضعية الاحتلال المباشر.
على أساس هذه الحقيقة، ينبغي أن نتفق حول غزة. لا بد من تنحي السيطرة الأمنية لفصيل، وتقوم السيطرة الأمنية لكيان الدولة القائم على أسس وطنية لا "تنسيق" أمنياً لها مع الاحتلال، ولا غموض في الخيارات، ولا إقصاء لأحد.