مقبلون نحن على مرحلة صعبة. لدينا رُكامان هائلان: دمار غزة ودمار العملية السلمية. والركامان يتطلبان وفاقاً وطنياً لا تُقية فيه ولا شيء مخبوءاً، ولا ثغرة ينفذ منها المحتلون لدق الأسافين بعد أن أخربوها وقعدوا على قلبنا وعلى تلها. فقد تحدثنا قبل أيام بصراحة عن الاستحقاق السياسي والكياني الوطني، لعملية إعادة بناء غزة وتعويض الناس الذين انتكبوا، في بيوتهم وأرزاقهم وأرواح أبنائهم. ونأمل أن يكون الجميع على قناعة، بأن اختيار العزف المنفرد لن يرفع ركاماً ولن يُغني ورقة سياسية تقاوم نكوص الاحتلال ومراوغته وغروره، وتنصله من العملية السلمية التي نتوخى لها خاتمة معقولة ومتوازنة، تضمن لنا الاستقلال في الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، على قاعدة ثوابت معتمدة هي الحد الأدنى الذي لا "نزول" بعده.
في مسألة المصالحة، جرت العادة أن يتركز الحديث على الجوانب الإجرائية. لكن ظروفنا اليوم لا تحتمل أية صيغة فضفاضة لذا فإننا ملزمون بإدارة حوار استراتيجي يناقش الخيارات كلها والمفاهيم، لأن المفاهيم والخيارات، عند طرفي الخصومة باتت في حاجة الى إعادة نظر، لكي نمارس السياسة بروح المقاومة، ونمارس المقاومة بمنطق الخرائط ومؤشرات ميزان القوى ومصالح الناس وحياتها.
على هذا الصعيد، بادرت "فتح" الى خطوة تُمأسس العمل التفاوضي الفلسطيني وتطوي صيغة المقاولة، التي اعتُمدت في عجالة الظمآن الذي يظن السراب ماءً، وتُمأسس العمل التصالحي الوطني، فتعد له السيناريوهات وتضع كل الافتراضات وتجهز الأجوبة عليها.
في "حماس" لا مؤشرات على وجود حوار داخلي معمق حول الخيارات في كل مرحلة وعلى المفاهيم. وللأمانة الحوار غائب فلسطينياً وبشكل عام. فليس لدينا تجربة حوار داخلي حقيقي، على الصعيد العام أو على صعيد أي فصيل. ويكاد واحدنا يجزم أننا لم نعرف الحوار الداخلي الاستراتيجي في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. فما كنا نسميه حواراً ينتهى الى وفاق؛ كان مجرد لقاءات تصدر عنها بيانات لتطويق أزمة أو لمواجهة عدوان، ثم يعود كل طرف الى مواويله بعد انقشاع الغيوم.
إننا نواجه اليوم تحدياً وجودياً. لم نعد نملك ترف السباحة في الأوهام من أي نوع. المرحلة تتطلب مصارحة وشجاعة أدبية وإحساسا عاليا بالمسؤولية. فإن تحقق لنا ذلك، ستكون "فتح" قادرة على المجاهرة بقناعتها أن التسوية مع هكذا صهيونية، باتت مستحيلة ولا تجوز العودة الى التجريب، وسيكون الإقلاع عن أشباه الباطل في الخطاب السياسي اليومي فضيلة وطنية. في الوقت نفسه، ستكون "حماس" قادرة على المجاهرة بقناعتها أن المحتلين يتعمدون جرنا الى مربع الحرب، لأن الغلبة تنعقد لهم فيها، وأن واجبنا يحتم علينا أن نتحاشاها، من حيث هي حرب كلاسيكية مثل تلك التي تندلع بين الدول والجيوش. وستكون "حماس" قادرة أيضاً على المصارحة بقناعتها بمحددات العملية السلمية التي يستشيط المحتلون غضباً من مفرداتها.
وَهْم السلم ووهم الحرب، أوقع واحدهما من الآخر أذى وأفدح. إن الخيار الحصيف المدروس من كل جوانبه، سلماً وحرباً، هو بديل الوهم وضمانة الصحو على الحقائق. وعند الصحو، يبدأ الكائن الحي سعيه الى خير العمل!