حماس كبنية أيديولوجية مشطورة إلى أكثر من جزئين.
هي لم تزل تتشدد في مسألة ترسيخ سلطتها على غزة. فبيان أبي عبيدة الذي تلاه باسم كتائب عز الدين القسام بدا وكأنه رسالة واضحة لمرجعية حماس السياسية حول امتلاكه زمام إمرة التقرير السياسي بشأن الملف التفاوضي مع العدو.
وإذا كانت القيادة السياسية لحماس- ومعها نحن- مصرَّة على أن يبدو حال العلاقات الداخلية بألف خير، كون الظروف الميدانية تحتاج إلى مستوى عال من الوحدة- بالمعنى الشامل- حتى لا يسمح للعدو بالتلاعب على التناقضات الداخلية وجعلها شماعة للتهرب من استحقاق الاتفاق الجاري التفاوض غير المباشر حوله بالنسبة لقطاع غزة، فإن مساحة من "انعدام اليقين" تسود العلاقة الحمساوية الداخلية نظراً لانشطار الولاءات داخل الحركة الاسلامية، بين أكثر من معسكر متباعد إلى حدِّ الصدام بالواسطة.
فبعد ما يزيد كثيراً على الألفي شهيد، وما يربو على " احد عشر ألف جريح، مضافاً إليهما أثر زلزالي مدمِّر للحجر والبنى التحتية، وخاصة الاجتماعية، نرى أنفسنا أمام مفارقتين كبيرتين لجهة الأهداف وما يمكن أن يتحقق منها في زوايا الراعي المصري.
اسرائيل تعتبر ومن خلال ادارتها للعدوان الاجرامي ان سياسة المساس المباشر بالآمنين ومقومات حياتهم تستطيع إلحاق هزيمة معنوية- سياسية بالمقاومة.
فيما ترى القيادة الفلسطينية الموحدة أنه من غير المنصف بقاء ما يقرب من مليون وسبعماية ألف إنسان تحت رحمة حصار ظالم ومقرّر بجعل هذا العدد من البشر رهائن سياسة استباحة لكل المعايير والأعراف الانسانية.
قيادة العدو ومن خلال ادارتها حرباً مفتوحة على القطاع تصرُّ على عدم منح "الفلسطينيين" أية جوائز تحفِّزهم على تكرار المساس بالعمق الصهيوني، وأن فلسفة يعلون التي ترضي ذائقة الحكومة الصهيونية المتطرفة والقائمة على "أن ما يحل بالقوة يُحل بالمزيد من القوة"، تلقى رواجاً في أوساط المجتمع الاسرائيلي الذي ذهب بعيداً في تطرفه. بل وعلى العكس فإن واقع الانقسام والانشغال الداخلي العربي واعتبار حماس ورقة أخوانية محروقة عربياً مضافاً إليه الموقف الأوروبي والأممي الملتحق بركب الخطاب الأميركي، يعزِّز كثيراً الشهوة العدوانية لحكومة العدو ويمنحها مساحة الوقت الكافية لتدبُّر أمر ليّ ذراع المقاومة وفرض شروط الهزيمة عليها- إن أمكن الأمر ذلك.
الصمود المثلث القوائم الذي تجلس ولم يزل في صمود المقاومة وثبات المرجعية السياسية واحتضان الجماهير الفلسطينية التي كانت ولم تزل على استعداد لدفع ضريبة سياسة المساس الصهيوني المباشر بها، يمثل الورقة الفلسطينية الأقوى والأربح، كونها تجرِّد العدو من إمكانية المناورة عبر اللعب على الانقسامات، وتفعِّل الأداء السياسي لإدارة ملفات القضايا الوطنية مجتمعة.
وإذا كنا ننحاز للمطالب الفلسطينية جملة وتفصيلاً، فإن الانطلاق من نقطة أننا انتصرنا وبالتالي باستطاعتنا فرض شروطنا كاملة على العدو يبدو أنه أمر مبالغ فيه. وإذا كنا نبصم على أن السيادة الفلسطينية على قطاع غزة يجب أن تكون كاملة وغير منقوصة، فإن وراء الأكمة الكثير من التحديات والمعوّقات الاقليمية التي تبدأ من نظرة الكيان الصهيوني للقطاع وما يشكله من تقاطع مشاريع وسياسات عابرة للحدود والثقافات، ودون أن ننسى البعد الأمني والاقتصادي لكيان فلسطيني- ولو ضئيل- على خاصرة الكيان الصهيوني.
ولا ينتهي الأمر عند القيادة المصرية التي طوت الصفحة الأخوانية بثمن فادح وعميق الأثر في البنية المكوّنة للتنوع الثقافي والسياسي، وما أفرزه من نمو وتمادٍ لظاهرة الإرهاب التي ترهق الواقع المصري من جوانبه الأمنية والإقتصادية وما تسببه من ضرر لصورة مصر الدولية والانتقال إلى ديموقراطية قوية وثابتة.
لم تغفر القيادة المصرية انحياز حماس لأخوان مصر وتدخلها المباشر والعميق- حسب التقارير المصرية- إلى جانب ميليشيا الأخوان وحلفائهم في أعمال القمع والتعدّي على المتظاهرين والناقمين على الحكم الأخواني.
كذلك تنظر مصر إلى القطاع الذي يتقاسم حدوده مع سيناء على أنه ثغرة أمنية خطيرة بصفته الممول بأسباب القوة والدعم المتعدد الأشكال للجماعات الإرهابية الناشطة في شبه الجزيرة المصرية.
وبالعودة إلى أزلية الجغرافيا بين قطاع غزة ومصر، ينبغي إعادة النظر بجدية ووضوح العلاقة بين الجارين وعلى قاعدة الإعتراف بمحورية مصر وقوتها ونفوذها وأهمية دورها العربي وحرصها على الشعب الفلسطيني وقضيته- ليس من مصلحة حماس التماثل بسلوك القيادة القطرية تجاه السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. فهي لا تشبه قطر سوى بانتمائها للمنظومة الأخوانية، لذلك عليها- أي حماس- أن لا تجدد حلمها بعودة الأخوان إلى الحكم في مصر، وعليه من واجبها الاقلاع عن لونها ورقة تركيا- قطر في وجه النظام الجديد في أرض الكنانة، وبذات القدر من الواجب على حماس انتاج مساحة انتساب نقية وواضحة للبعد الفلسطيني من بوابة قراره المستقل، الذي يحمي شعب فلسطين وقضيته من الوقوع في شرك الاستثمار الإقليمي والفواتير المجانية المكلفة ذات المردود السلبي، بحيث يسهم ذلك الانتساب في بلورة علاقة ثقة ومصداقية تجدِّد علاقة الآخرين الايجابية بالقضية الفلسطينية التي تعيش امتحاناً دائماً في ضمائر الدول والقوى الحية فيها.
فصرخة الرئيس محمود عباس بداية العدوان الصهيوني على غزة بعدم التلاعب بالملف الفلسطيني وتركه بعيداً عن الاستثمار الإقليمي دلتْ وبعمق على خطورة حرف مسار التضحيات الفلسطينية وأخذها إلى خارج انتسابها ومكانها.
فإذا أخذنا الدورين التركي والقطري في معادلة تمثيلهما القضية الفلسطينية، ماذا نكشف؟
المفارقة الملفتة أن كلا الدولتين تقيمان علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وتنعمان بعلاقات خاصة مع الكيان الصهيوني.
المفارقة الثانية أن كلا الدولتين تعملان وفق المنهج الأخواني. فيما الثالثة تشير إلى شبه قطيعة بينهما وبين مصر والسعودية.
فلو أن امارة قطر تؤدي ادواراً بناءة في المنطقة ما كانت اتهمت برعاية وتمويل الحركات الارهابية- من ليبيا حتى العراق وسوريا، وما كانت دول مجلس التعاون الخليجي بصدد القطيعة التامة مع قطر نظراً للدور المشبوه الذي تلعبه في الخليج وخارجه.
إذا كشف العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة عن فهم عميق لواقع المنطقة وعلاقات اقطابها المتشعبة والمتصارعة في آن واحد، وعن قدرة العدوان على التلاعب بالأولويات السياسية من خلال كونها تعبيراً عن مسارح اعمال حربية تجري فوق الأرض العربية، بحيث لا تهدد كيانات- سوريا- والعراق- بعينها، بل إن خطرها بات يهدد اقطاراً اخرى أبعد- كالأردن والسعودية.
من هنا لم تخف أوساط الاحتلال الاسرائيلي فرحها من القدرة على التنعم باستقرار استراتيجي يمتد حتى خمسين عاماً. فالجيش العراقي الكبير والمجرَّب والقوي التسليح قد تفكك واستبدل بآخر مختلف الهوية او العقيدة. والجيش السوري فقد ما يزيد على 50% من قدرته العددية وبات عاجزاً عن اية مواجهة محتملة. فيما صنف الجيش المصري بالمترهل والفاقد للأهلية الهجومية والدفاعية.
الفرح الاسرائيلي بما يجري في المنطقة من صراعات دموية عبر عن نفسه باعتبار ان لا أفق لنهاية التطاحن المذهبي- الديني، حيث لا اشارات تدل على نهاية قريبة لكارثة المنطقة، وبالتالي- حسب الخيال الاسرائيلي- لا يوجد كيان عربي مضمون البقاء، فيما اسرائيل القوية والحصينة هي الثابت الوحيد.
وبناءً على ما سبق سوف يكون التفاوض غير المباشر مشدوداً إلى تعارضين. الفلسطينيون يريدون فك الحصار والتنعم بالسيادة الوطنية في غزة، فيما حكومة العدو سوف تحصر عملية التفاوض على شكليات أولوية- مثل  فتح معابرها للبضائع باتجاه غزة، ثم إغراق المفاوض الفلسطيني ببحث كيفية اعادة اعمار غزة –تمويلاً وإشرافاً.
المعركة طويلة مع العدو، ومسألة حساب الربح والخسارة تحددها قفزات فلسطينية ملموسة باتجاه وحدة وطنية ناجزة- تتعدى الإطار النخبوي. وتصويب عالي الكفاءة لجهة العودة إلى الجذور وفك ارتباط الملف الفلسطيني عن ملفات المنطقة.